تشهد نيويورك خلال الأيام القليلة الماضية، وبمناسبة افتتاح الدورة الستين لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، قمة دولية يحضرها عدد كبير من رؤساء الدول وذلك لمناقشة قضية مواجهة الفقر العالمي إضافة إلي قضايا الإرهاب والإصلاح داخل المؤسسة الدولية. وهل هناك أهم من قضية الجوع والفقر في العالم؟ وحين نتحدث عن مشكلة الفقر في العالم فلابد وأن نشير إلي الحقائق المؤلمة والمأساوية التي تحيط بهذه القضية، أبسطها أن ثلث سكان العالم يعانون الفقر الشديد "تحت خط الفقر" وثلثا آخر يعيش علي حافة الفقر، وهؤلاء الذين يمثلون قرابة ثلثي سكان العالم من الفقراء وأشباه الفقراء يعيش 95% منهم في بلدان الجنوب. إن بلداناً مثل الكونغو والسودان وأثيوبيا وكينيا وغانا ورواندا وهي كلها تعتبر من البلدان الأشد فقراً، تحتل رقعة متميزة من الأراضي الخصبة والغابات ومصادر المياه، ويمكن أن توفر وحدها حوالي 40% من احتياجات العالم من المواد الغذائية، ولكن هذه الدول تستورد من أوروبا وأمريكا أكثر من 80% من احتياجاتها الغذائية، وتغرق في صراعات وحروب داخلية وأهلية ونزاعات حدودية تستنزف قدراتها وتعوقها عن التخطيط والإنتاج، كما تستهلك من السلاح الكثير وتنفق عليه أكثر مما تنفق علي الغذاء والتعليم والصحة. تري من المسئول عن هذه المأساة المزدوجة؟! فالذي يصدر الغذاء هي دول الشمال الغني، والذي يصدر السلاح لتلك الدول هي أيضاً دول الشمال الغني، والذي يملك المناجم والمزارع الكبيرة في تلك البلدان هي الشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر عليها دول الشمال الغني، أما الذي يجوع ويقتل ويدخل في دوامة العنف والنزاعات المسلحة، وتفتك به أمراض الفقر والتخلف، فهو الإنسان في ذلك العالم الجنوبي التعس والذي تلاحقه لعنات واستغلال والغرب وأيضاً شفقة وإحسان الكبار الأغنياء. وعلي عكس ما كان مفترضاً من قبل أثبت مؤتمر الغذاء العالمي الذي عقد في روما، أن الناس تجوع نتيجة الفقر حيث إن هناك سياسة منظمة لإفقارهم، وليس مثلما كان يزعم البعض لأن امكانيات الأرض في إنتاج الغذاء تتناقص نتيجة زيادة السكان في الجنوب، ففي خلال الثلاثين عاماً الماضية كانت الزيادة في إنتاج الغذاء أكبر بكثير من الزيادة السكانية. وتقول الإحصائيات المقارنة بين الزيادة السكانية والزيادة في إنتاج الغذاء وباعتبار أن عام 1950 هو سنة الأساس، إن الزيادة في السكان تضاعفت مرتين بينما سجلت الزيادة في إنتاج الغذاء في نفس الفترة ثلاثة أضعاف، وهذا يعني أن مشكلة الفقر والجوع في العالم لا ترجع إلي الزيادة السكانية مثلما كان شائعاً بين منظري سياسة الفقر والجوع، بل ترجع إلي الزيادة في سوء التوزيع. فقد ثبت أن الفجوة الغذائية بين دول الشمال والجنوب قد زادت إلي أكثر من الضعف في الثلاثين عاماً الماضية أي حوالي 20% من سكان العالم في الشمال ينتجون ويستهلكون قرابة 70% من الإنتاج العالمي من الغذاء، ويكشف ذلك وبوضح الاستنزاف المخطط والمركز الذي تتعرض له شعوب العالم الثالث من جانب القوي الاقتصادية الكبري في نظام العولمة الجديدة وتطبيقاتها. فأغنياء الشمال خاصة في الولاياتالمتحدة وغرب أوروبا يضعون الخطط للحفاظ علي الأسعار العالمية للمواد الغذائية وزيادتها وذلك باستخدام وسائل شتي منها تبوير الأرض وعدم زراعتها لفترة ومنها إغراق المحاصيل في البحار والمحيطات وهو الأمر الذي تجري ممارسته سنوياً في أوروبا وأمريكا، ومنها قوانين التجارة العالمية. ولهذا ينتقد تقرير التنمية البشرية الذي أصدرته الأممالمتحدة مؤخراً سياسة بعض الدول الكبري خاصة أمريكا واليابان وإيطاليا والذين احتلوا المراكز الأخيرة في تقديم معونات حقيقية لمواجهة الفقر.. كما اتهم التقرير الولاياتالمتحدة واليابان ودول الاتحاد الأوروبي باستمرار ومواصلة سياسة استنزاف الدول الفقيرة، واتباع تلك الدول سياسة منافقة ومزدوجة خاصة بالنسبة للمنتجات الزراعية. ويمضي التقرير العالمي ليشير إلي أن هذه الدول التي أسست منظمة التجارة العالمية والتي تقوم علي سياسة فتح الأسواق بلا حدود أو قيود، تقوم هي نفسها بدعم منتجاتها وتفرض الكثير من قرارات الحماية علي الواردات في حين تحرمها علي دول العالم الثالث والفقير، ليس هذا فقط بل وتقدم مئات المليارات من الدولارات لدعم منتجاتها التصديرية خاصة المنتجات الزراعية. ويقول التقرير بالنص إن الدول الصناعية الكبري تحض علي نظام وسياسة قوامها التبذير في الإنفاق في الداخل، مع تدمير حياة الفقراء في الخارج، ولنضرب مثلاً بذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تدفع حوالي 4 مليارات دولار سنوياً لحوالي 20 ألفاً من المزارعين الأغنياء الذين يزرعون القطن في مزارعهم الكبيرة، وهو مبلغ يفوق كثيراً ما تقدمه أمريكا من مساعدات لإفريقيا، الأمر الذي يلحق أضراراً كبيرة لبعض الدول الإفريقية واللاتينية التي تعتمد علي القطن كمصدر مهم للدخل مثل بنين وبوركينا فاسو والبرازيل وبعض دول أمريكا اللاتينية. ولعل القادة المجتمعين في قمة نيويورك لمواجهة الفقر في العالم يتذكرون كلمات شاعر أمريكا اللاتينية بابلوتيردوا التي أطلقها في الستينيات وتحولت إلي واقع مرير وحزين حين وصف معاناة شعوب العالم الثالث بقوله إن الأطفال لا يجدون اللبن، بينما تشرب الأسماك القهوة. مشيراً بذلك إلي سياسة إغراق المحاصيل ومنها البن في البحار حرصاً علي زيادة الأسعار بينما يموت الأطفال الذين لا يجدون اللبن أو الغذاء الصحي، ويعانون أمراض البلاجرا والأنيميا وفقر الدم. هذه هي الأبعاد الحقيقية لمشكلة الفقر والجوع في العالم، سوء توزيع مذهل من شمال غني ومستغل ومصاب بأمراض التخمة يمثل 20% من سكان العالم ويستهلك أكثر من 70% من الاستهلاك العالمي، وجنوب فقير مستنزف يمثل أكثر من 80% من سكان العالم يلاحقه الاستغلال المكثف والحروب والنزاعات القبلية والحدودية، ونخبة متحكمة من النظم الدكتاتورية والفردية والعسكرية التي ترتبط مصالحها ووجودها بالقوي المسيطرة في الشمال الغني، الأمر الذي يترتب عليه المزيد من افتقاد الأمن وعدم الاستقرار، ليس في الجنوب فقط، بل وبالنسبة لشعوب الشمال نفسها.