هل تقدم القرارات الأخيرة لقمة الثمانية الكبار حلا حقيقيا لمشكلة الفقر في العالم. وبمعني آخر هل تمثل الغاء الديون علي الدول الاشد فقرا في العالم 18 دولة (40 مليار دولار) واعتماد عشرة مليارات اخري لمساعدة دول فقيرة اخري خطوة علي طريق التنمية الحقيقية لتلك البلدان ام ان الامر لا يتعدي كونه اعترافا صريحا بفشل العولمة الاقتصادية ومحاولة لتهذيب وترشيد طموح الرأسمالية الشرسة والقاتلة. وهذه الدول التي تقع غالبيتها العظمي من الدول الافريقية جنوب الصحراء تصل ديونها الخارجية الي 40 مليار دولار في حين تتجاوز ديون افريقيا بشكل عام (600 مليون) اكثر من 350 مليار دولار بينما يبلغ متوسط الدخل الافريقي حوالي 310 دولاراً للفرد في العام فان متوسط نصيب الفرد من الديون يصل الي 365 دولاراً!! وكان من المتوقع ان يكون قرار الثمانية الكبار والذين يمثلون مجلس ادارة العالم مرتبطا بسياسة جديدة لفضح وكشف المآسي والموبقات التي تعاني منها دول افريقيا ودول العالم الثالث بشكل عام نتيجة سياسية الافقار والتجويع المتصلة والمبرمجة والتي تقوم بها الرأسمالية الجامحة والاستنزاف المركز الذي تتعرض له هذه الشعوب من خلال آليات الرأسمالية العالمية وقوانيها الجائرة وأنه قد آن الأوان لتشريح ظاهرة الفقر العالمي والبحث عن علاج حقيقي. لكن الحقائق تقول غير ذلك وتؤكد ان الدول الثمانية الكبيرة والغنية تضع سياسة الربح قبل الانسان مثلما قالت المظاهرات الحاشدة والاحتفالات الواسعة التي تشارك فيها الملايين ضد سياسات عصابة الثمانية الكبار حين اشارت الاحصائيات ان الدعم الذي تقدمه امريكا ودول الاتحاد الاوروبي للمزارعين الكبار والاغنياء في تلك البلدان يساوي ضعف المبالغ التي تبرع بها مجلس ادارة العالم لمساعدة الفقراء في العالم وان البقرة الواحدة في مزارع دول الاتحاد الاوروبي تحصل علي دعم يومي يصل الي 5.2 دولار بينما هناك قرابة 3 مليارات انسان يقل دخلهم اليومي عن 3 دولارات يوميا. منطلقات قرار الثمانية الكبار الاخير لا يتعدي والحالة هذه مجرد الشفقة والرفق بالفقراء ومن قبيل تقديم بعض العلف والغذاء للبقرة الحلوب حتي يمكن ان يؤخذ منها لبن اكثر يساوي اضعاف ثمن العلف والغذاء وهكذا لا يجد الاطفال اللبن في افريقيا بينما تشرب الاسماك القهوة نتيجة سياسة القاء المحاصيل في البحار والمحيطات من قبل الدول الغنية للحفاظ علي الاسعار العالمية ودولار الحسنة والمعونة الذي سيأتي بعشرات الدولارات او ليست الحسنة بعشرة أمثالها؟ وحين نتحدث عن مشكلة الفقر في العالم فلابد وان نشير الي الحقائق المؤلمة بل والمأساوية التي تحيط بهذه القضية أبسطها أن ثلث سكان العالم يعانون الفقر الشديد وثلثا آخر يعيشون علي حافة الفقر وهؤلاء الذين يمثلون ثلثي سكان العالم من الفقراء والمعوزين يعيش 90% منهم في بلدان الجنوب. ان بلدانا مثل الكونغو والسودان واثيوبيا وكينيا وغانا ورواندا وهي كلها تعتبر من البلدان الاشد فقرا تحتل رقعة متميزة من الاراضي الخصبة والغابات ومصادر المياه المتوافرة ويمكن ان توفر وحدها حوالي 40% من احتياجات العالم من الموارد الغذائية ولكن هذه الدول تستورد من اوروبا وامريكا اكثر من 80% من احتياجاتها الغذائية وتغرق في صراعات وحروب داخلية وأهلية ونزاعات حدودية تستزف قدراتها وتشلها عن التخطيط والانتاج كما تستهلك من الاسلحة الكثير وتنفق عليها اكثر مما تنفق علي الغذاء والتعليم والصحة. تري من المسئول عن هذه المأساة المزدوجة؟ الذي يصدر الغذاء هي دول الشمال الغني وبمعني أدق الثمانية الكبار والذي يصدر السلاح لتلك الدول هي ايضا دول الشمال الغني والذي يملك المناجم والمزارع الكبيرة في تلك البلدان هي الشركات المتعددة الجنسيات التي تسيطر عليها دول الشمال الغني اما الذي يجوع ويقتل ويدخل دوامة العنف والنزاعات المسلحة ويفتك به امراض الفقر والتخلف فهو الانسان في ذلك العالم الجنوبي التعيس والذي تلاحقه لعنات واستغلال واحسان الكبار.. والاحصائيات التي تصدر عن الاممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة بل وعن مراكز الدراسات ونوادي الرأسمالية العالمية مثل منتدي دافوس ونادي روما الاقتصادي لا تترك مجالا لاي شك حول انقسام العالم الي معسكرين، معسكر صغير وغني في الشمال يمثل حوالي 20% من سكان الكرة الارضية وهذا الشمال الغني مصاب بامراض التسلط والتخمة العسكرية والاقتصادية ومعسكر الجنوب الفقير والمستنزف والمصاب بامراض البلاجرا والانيميا وفقر الدم. هل نواصل العزف علي هذا اللحن الكئيب تعذيبا للذات وجلدا لها لنوضح الي اي مدي وصلت صناعة الفقر العالمي الي هذا الازدهار غير المسبوق أليس علينا ان نتحسس عقولنا لنتساءل عن الاسباب التي ادت الي هذا الواقع المؤلم والحزين وهل الأمر يتعلق فقط بالمؤامرات الاستعمارية والاستنزاف المركز من قبل القوي الكبري المتحكمة ام ان هناك عوامل داخلية اجهضت احلام شعوب هذه البلدان وبقسوة. ودعنا نعترف ان الموبقات الداخلية في هذه البلدان قد لعبت دورا اساسيا في اجهاض الاحلام حين تحول الاستقلال والتغني بالنشيد القومي وعضوية الاممالمتحدة في اغلب الاحيان الي مجرد اشكال براقة علي السطح وحين فشلت النخب العسكرية والفردية التي حكمت تلك البلدان في بناء الدولة العصرية والديمقراطية القادرة علي التقدم والانتاج والابداع. وتحولت شعارات التنمية والاستقلال القومي الي نظم حكم ديكتاتورية قاهرة احتكرت السلطة والثروة ووظفتها لخدمة شرائح محدودة بينما اهدرت قيم الديمقراطية والحرية والتخطيط والعدالة الاجتماعية وتحول التعاون الواسع المفترض بين هذه الدول الي صراعات عرقية ودينية وحدودية استنزفت الكثير من ثرواتها البشرية والمادية. ثم جاءت التغيرات الدرامية الواسعة علي المشهد العالمي في السنوات الاخيرة وانطلاق الرأسمالية الجامحة وآلياتها القاسية في فتح الاسواق بلا حدود والمنافسة القاتلة بلا قيود لتزيد من مأساة شعوب العالم الثالث والذين وقعوا بين فكي كماشة محكمة..ما بين نظم ديكتاتورية وعسكرية حاكمة ومحكمة وشركات وقوي اجنبية عملاقة تحكم هي الاخري وتتحكم وتستنزف القدر الاكبر من امكانيات تلك البلدان كل منهما يبرر الآخر ويكمله. ولم يعد هناك من سبيل لكي يشرب اطفال العالم الثالث اللبن سوي اقامة انظمة ديمقراطية توظف كل الطاقات في المجتمع للانتاج والخلق والابتكار وبعيدا عن احسان الاغنياء واستغلالهم في الشمال.