انتشرت في الآونة الأخيرة دعوات مُلحّة للحوار بين الثقافات المختلفة، من دون أن يتساءل الداعون- إلا نادرا- عما إذا كنا نمتلك أهلية إجراء حوار علي هذا المستوي، أو عن جدواه في ظل فشل الحوار المعاصر عموما، لا بين الثقافات المتقاربة فحسب، بل بين أفراد الثقافة الواحدة، وفي أي مستوي من مستوياتها. يمثل الضجر، من عدم الأهلية لإجراء حوار إنساني، مناط التعلق المعنوي في مجموعة "حكايات من فضل الله عثمان" لإبراهيم أصلان (دار ميريت، القاهرة، 2003)، ويمثل في الوقت نفسه مبدأً فلسفياً تتبناه جملة المواقف التي يحكمها الإطار المكاني الواحد، وتحكم هي إطار أفكار المجموعة، المتمثل في التأملات والأسئلة المحيطة بتجليات فشل الاتصال. "حكايات من فضل الله عثمان" قصص، تتجاوز المفاهيم النوعية بهدوء، لتقدم تنويعاً ممتعاً علي المصنف التأسيسي من القصة الصغري (الهامشية أو المُهمَلة) Minimal story. و"فضل الله عثمان" اسم الشارع الموازي لشارع كورنيش النيل، والمنفتح علي منطقة الكيت كات في إمبابة، تلك الحدود المكانية التي لا يغادرها سرد أصلان، ولا يقطع راويه الخيط القوي الذي يربطه بها. يجلس في القصة/ المفتتح "مدخل" عجوزان علي ناصية الشارع الصغير، يحكي أحدهما ببساطة عن الابنة التي تريد "بوتوجازا" بستة فرن، فيبدي رفيقه دهشته من هذا الخلط، بين الشعلة والفرن، وينهض ساخطا، ضجرا من ذلك الجهل بما ينبغي العلم به، وتاركا الآخر واجما. لا يعرف العجوز فرقا بين الاثنين، فربما لم ير في حياته كلها هذا الشيء البدائي، قياسا علي تعقيد الأجهزة الحديثة، بحث عما طلبته ابنته، وهي طلبت ما لا تعرفه، وكشف الاثنان عن حالة جهل وبؤس تشبه حالة الطفل الذي يشير، في قصة "مشوار"، إلي كل رجل متسائلا: "عمو" ؟! ولا ترد لفظة الأب علي لسانه أبدا، بالرغم من غيابه.. عزلة الأم الشابة، عدم نوم الطفل في فراشها، وعدم تحرجها من الخروج بقميص النوم، الجريدة المطوية، البيجاما الرجالي: كلها إشارات موحية بهجران الزوج لها، في أحسن الأحوال، وفي أسوأ تقدير بعدم شرعية طفلها، وبالمصدر المخزي لدخلها، الذي يكفي فقط لشراء ساندويتش فول. وفي "مشهد جانبي" يثير الضحك إلي حد الألم، يقرر "عبد العظيم" ألا يعود إلي العمل مرة أخري، بتمرد مفاجئ لا يبدو وراءه سبب عدا الضجر. يفشل الحوار مع الزوجة فتستغيث بأحد الجيران ليعرف المشكلة، ويحاول الجار الطيب معه، لأن الواحد منا مهما كان ""لازم يروح الشغل"، فيسفّه "عبد العظيم" الأمر منهياً الحديث وداعياً الرجل للجلوس إلي جواره علي السرير العالي. يصعد الجار فينهار السرير بالاثنين معا، ينكسر زجاج النافذة، وتلسع سيجارة المتمرد الجار، فيصرخ ويرفس من تحت المراتب والألواح. تقفز الزوجة إلي الغرفة وتري الفوضي، تظن أن زوجها يضرب الرجل، فتجري صارخة بكل عزمها، ويدخل إلي البيت في لحظات كل من كان بشارع فضل الله. ويستبشر العجوز في "مونديال" بالموعد المبكر لإذاعة المباريات، للفرار المؤقت من ضجر الانقطاع عن العمل من جانب، وعن الحوار مع الزوجة من جانب آخر، فيتأهب بنشاط "ويشعر كأن صحته صارت علي ما يرام" ، لكن ضجر المرأة التي تنظف سلم المبني يطارده، حتي ينزوي في غرفته وقد فسدت متعته. سنشعر بضجر الراوي والشخصيات في أكثر القصص، مرتبطاً بعدم المعرفة وسوء الفهم، كما في القصص السابقة، وقصة "قطرات من الليمون"، ومرتبطاً بوطأة التذكر في جملة قصص تمثل إشعارا فائق الدلالة بمصير العلاقة بين أفراد الجماعة في الشارع القديم، شارع فضل الله عثمان المتوحد بشخصية الراوي العجوز، ليقص بكفاءة عالية حكايات كائناته. لا يبيع الرجل علي سبيل المثال، في قصة "الرجل والأشياء"، ماضيه بقدر ما يتخفف من ضجر حمل تركة لا يستفيد منها شيئا، ولن يرثها أحد، فلما تبدت لها قيمة، بأن كانت سببا في التواصل بالحوار مع البائعة الشابة، تغير موقفه منها وبدأ يحتفظ ببعضها.. ولا يستطيع السارد في قصة "سبيل للصغار" تذكر ملامح ابن الجيران، الذي سقط من سطح بيت في الشارع فمات، وفي حين تضجره الزوجة بحكي ما لا يفيده يري الصغار يقيمون سبيلاً لروح رفيقهم، عارضين أمامه- بتلقائية مؤثرة- نموذج اتصال روحاني، لمواجهة معضلة التذكر/النسيان.. حاصرت هذه المعضلة نفسها الابن في قصة "خيط". الأب الميت في غرفة داخلية، والأم في الخارج تلح بطلب محفظته، المربوطة في ملابسه بخيط قوي، والابن ضجر من انتظار مُعزِّين لا يحضرون، وحانوتية تأخروا كثيرا، برغم زمالتهم للأب، ومن إلحاح حوار لا يمنحه فرصة لتذكر الميت أو نسيان موته، بغض النظر عن عدم وجود جاذبية في أي من الخيارين.. وفي قصة "سفر"، يركب الرجل القطار ممتلئاً بذكري المكان القديم وتفاصيل الأشياء، وعندما يصل يجد كل شيء قد اختفي، يسأل أحدهم فيقول إن المكان كان دائما كما هو الآن ولم يختلف فيه شيء. اشتدت وطأة تذكر الأشياء إلي حد نسيان المكان نفسه، وبذلك لم يعد أمام الرجل سوي الاستلقاء في العراء والهذيان، بمحاولة يائسة- ربما- لتذكر المكان الحقيقي وتفاصيل الأشياء التي تطارده، أو التكيف مع أشياء المكان الغريب ونسيان الذكري نفسها. مرة أخري- ليست أخيرة- لا يمنح أصلان شخصياته أية خيارات جذابة.. وتدفع وطأة التذكر المرأة، ذات العين المائلة في قصة "شتاء"، إلي التربص بالفحام العجوز وتخديره جزئيا، لتريه في صمت أثر حرق قديم شوه جسدها. تبكي المرأة وهي تضع يد الفحام علي الأثر، وتلطمه بشدة، فيداهمه شعور بالندم، لأنها فيما يبدو بددت نسيانه ما كان مسئولا عنه بطريقة أو بأخري. حياد السرد ينسحق الأفراد، في عالم فضل الله عثمان، تحت ثقل الزمن، تختفي الأشياء القديمة أو تباع، ولا تختلف قيمة البشر كثيرا عن قيمتها، إنهم أيضا يختفون، كلياً بالموت، وجزئياً بالعزلة والشرود والتشرد، وسواء كان تدني القيمة سببا للاختفاء أو نتيجة، فالحاصل أن عالم فضل الله نفسه مهدد بالجمود والصمت والاختفاء (تأمل أيضا قصص: السوق، قطرات من الليمون، طرف من خبر العائلة، رجل). ترددت في المجموعة بعض العلاقات التي تحدد إطار أفكارها، ظاهريا كالنافذة المطلة علي الشارع والأبواب المفتوحة في كثير من القصص، وباطنيا كفكرة التذكر/النسيان، وقضية فشل الاتصال بالآخرين، لوقوع الحوار معهم في دائرة عدم الأهلية، وعزوف الشخصيات عن الدخول في نظام أكبر من ذواتها. لا أظن ترتيب قصة "حوار" في المجموعة قائماً علي مصادفة، فقد انتشر الحوار المباشر في القصص الأولي (عدا قصة السوق)، ثم جاءت قصة "ذلك صوت" - بعد "حوار"- في منتصف المجموعة تقريبا، لتكون إيذانا بتوقف الكلام مع الآخرين، فما بعدها (عدا قصة طرف من خبر العائلة) يخلو من الحوار المباشر، تغلب عليه أجواء الأحلام ورمزيتها، ويسوده الصمت المطمئن للذكريات والتخيلات. يحكي السارد غير المتطفل قصة "حوار" بأقل قدر من الوساطة، وبجدية واضحة ترفع البداية الموجزة علامة الغروب الطبيعي/النفسي، لتقود السرد: "آخر النهار، زوج شاب يجلس علي حافة الفراش، يري نفسه في مرآة الدولاب الباهتة، ويمر وقت. تدخل امرأة صغيرة من باب الحجرة المفتوح وقد حملت ثيابا مغسولة جمعتها من سطح البيت. تلتقي عيناها بعينيه.تتوقف. يقوم هو يجلس علي الكنبة الموضوعة تحت النافذة. تلقي هي الثياب في المكان الذي كان يشغله.تعزل المشابك الخشبية جانبا وتبدأ تطوي سترة بيجامته. يطل هو عبر النافذة المفتوحة إلي فضل الله عثمان الذي غابت شمسه. يسألها إن كان أحد سأل عنه وهو نائم. تقول إن أحدا لم يسأل". تتسق آلية السرد الحيادي مع رتوب السلوك الموصوف في القصة والحوار المغتصب، ولنلحظ أن الإشارة إلي عمر الزوجة حددته بصغر السن، وليس بمرحلة الشباب كما حدث مع الزوج، ويصلح ذلك تفسيرا لاقتصار دورها في الحوار علي رد الفعل، برغم وداعة الزوج وطيبته الظاهرة. يسألها الزوج عما إذا كان مناسبا أن يضيء الغرفة فتوافق، ثم يعود ليسأل عن أفضلية الانتظار حتي يطرد الذباب، فتترك له الخيار، يقول إن هذه ليست إجابة، وإنها مادامت وافقت فقد كان عليها أن تؤكد رغبتها، حتي لو أراد هو الانتظار .. "ترد عليه بأنها لم تكن ترغب في شيء. وتلم قدميها من الأرض وتطوي ساقيها تحتها. ويمر وقت. يفرد ذراعه وراءها علي مسند الكنبة. أطراف أصابعه تلامس إبطها الأيسر. تعتدل قليلا. لحيته نابتة. عيناها دامعتان. أنفه قريب من شعرها". جاء الاتصال الجسدي في هذه النهاية الرقيقة بديلا للاتصال الفكري الفاشل، فكان مؤشرا علي تراجع مستوي العلاقات بين الأفراد إلي حد بدائي، ولا يوجد ضمان لأن يكون في كل الأحوال تراجعاً سلمياً، فالعناق هنا اتصال، والقتل في قصة "صمت" اتصال أيضا. ولنتذكر موقف الرجل من بيع سكين والده في قصة "الرجل والأشياء". الصوت الغامض وضعت الآلة- السكين- للنفع المادي بالأساس، ثم فرض تعقد العلاقات البشرية علي وجودها وظيفة القتل، عدوانا أو دفاعا، وأضيفت لها في القصة وظيفتان: فنية لجمال مقبضها، وتواصلية مع الأب الميت، لذلك بدا صمت الرجل، عند مساومة الشابة لمشتري السكين، مشحونا بصراع الثقة في وظائف الآلة والشك في إمكانية تعويضها، فلما كشفت الشابة- بعفوية ذكر الأب في المساومة- عن فهمها لهذا الصراع، أصبح استبدال الإنسان بالآلة، والتواصل مع الأحياء، ممكنا. ولنتذكر أيضا الاستجابة العنيفة من "عبد العظيم" لفشل الحوار مع زوجته في قصة "مشهد جانبي"، الفشل الذي ينذر بانهيار وشيك للعلاقات، كالانهيار المتوقع في قصة "ذلك صوت"، أو "صوت" حسب ما جاء في فهرس المجموعة، حيث تشعر المرأة بترددات غامضة في غرفة الجلوس المطلة علي شارع فضل الله عثمان، وتستشير أحد الجيران، فيعدها بالتصرف لمعرفة مصدر الصوت، يحكي الخبر لجار آخر، فيهرع هذا إلي بيته، لينصت للصوت نفسه، في جدران الغرفة المطلة علي الشارع أيضا، ويظل يصرخ في ابنته سائلا عن زوجته بنفاد صبر وغضب. تذكّر هذه القصة بقصة "مسحوق الهمس" ليوسف إدريس، إذ تشتركان في عنصر الإنصات للصوت الغامض، غير أنهما تمضيان بعد ذلك في اتجاهين مختلفين، لبلوغ غاية مختلفة. يتعلق السجين الوحيد في "مسحوق الهمس" بالصوت الغامض، متصوراً أن مصدره امرأة من سجن النساء القريب، وينشط باستجابة مماثلة وافتراضات تقريبية لملامح المرأة. تتنامي الإيحاءات باللقاء الوشيك، لكن الاتصال يفشل، بسبب خيبة التوقع وغلبة عوامل خارجية لا تملك الشخصية دفعها. أفراد "ذلك صوت" سجناء أيضا، وإن كانت أجسادهم طليقة، وصوتهم الذي لا يستبشرون به يتردد في غرفة الجلوس، مكان اللقاء والتحاور، ويضيف انفتاح النافذة إلي ذاكرة الغرفة رصيد اللقاءات العابرة والحوارات التي تتم في الشارع. مرّ بنا أن لقاء الأفراد معطل وحوارهم محبط، فكأن الجدران تستقبل الصوت الخارجي ولا تقوي علي امتصاص تراكماته المحبطة. الحكي الخارجي بحيادية قصوي، و"التَّستّر" علي وعي الشخصيات أهم ما يميز سرد إبراهيم أصلان، في جميع أعماله، إضافة إلي ندرة الوسائط غير الضرورية لفعل السرد، سواء كانت عبارات أو مواقف، وفي "حكايات من فضل الله عثمان" غلبت الوسائط التي توهم بتلقائية الحكاية وشفاهيتها، لوضع لغة السرد الكلي في إطار تواصلي، يعوض افتقاد التواصل المشبع بين الأفراد في عالم القصص، ويتسق مع مفارقة أن الحوار هو الفعل الذي يعول عليه لتغيير الحالة صفر. تحكي القصة الصغري عن فعل يتوسط حالتين، بحيث تكون الحالة اللاحقة تعديلا للسابقة، وهذا تحديد أساسي تقدم حكايات أصلان تنويعا ثرياً عليه، لتأكيد عدم أهلية الشخصيات للتحقق في نظام أكثر تعقيدا، ولدعم جزئية الاستقرار الوهمي الذي يتبع الأفعال غير المجدية، وأخيرا لتجاوز خصائص الحكاية نفسها، بالتمويه قدر الإمكان علي سطوة الشعور بفناء الزمن. الجري للشيخوخة تعني الحكاية تمجيد تتابع الزمن، مع التخفف إلي أقصي حد من الانفعالات المعلنة والتفكير المتعمق، ويعني ذلك بالضرورة أنها تقص شئون بشر يمضون إلي الشيخوخة والفناء، أي أنها تستلب انتباه المتلقي وفضوله ثم تصيبه باليأس والحزن، لأن استشراف نهايات الآخرين يذكر بنهاية الذات. يموه الامتداد في المكان علي الشعور بفناء الزمن، وربما يبدده، فالمكان أوضح وجوداً وأطول بقاءً، ومن هنا تبرز أهمية جميع العلاقات التي تفيد توسعة المدي المكاني في المجموعة، وتربط بين قيمة البشر والأشياء، لأنها في الحقيقة تعبير مرهف عن طموح للخلود وتعلق بالذي يبقي. الرغبة في الاتصال بالآخرين ضرورة بقاء، لذلك يبدو تركيز حكايات الشارع الحكيم علي فشل الاتصال تهكماً واضحاً من سعي الوسائل الحديثة للسيطرة علي الزمن والفضاء والبشر، وتعريضاً في الوقت نفسه بالدعوات "الحارة" للحوار بين الثقافات، فإذا كنا نفشل في إجراء حوار مباشر- فرصته أفضل في الإقناع- بين أفراد معدودين، فكيف نطمح في الاتصال بملايين البشر، وتبليغهم رسائل محددة عن ثقافتنا؟! يتجول سارد أصلان في "فضل الله عثمان"، كأنما يتجول في نفسه، مراقباً الكائنات- الخارجية والداخلية- بدهشة عذرية واستجابات مرتبكة. تكشف الاستجابات عن عقل ذي نمط من الذكاء المراوغ والخيال الجامح، نمط معقد يوافق المشاعر المضطربة دائما إزاء حسابات الواقع اليائس وافتراضات الآخرين أو توقعاتهم. يتجول السارد وحيداً يراود الزمن، معلقاً روحه بروح الأشياء، ومستمداً من روح مبدعه الكبير وجوداً متميزاً وبقاءً ملهما.