لم يزل البعض يعاند الحقيقة ويخيل إليه إنه قادر علي تغيير ما لم يتغير وما لا يتغير لا حاضراً ولا مستقبلا. ولم يزل ما كان يوم «جمعة تمزيق الشمل» أو بالدقة «جمعة كشف المستور» يحلق في الأفق المصري، فالبعض خدع بحلو الكلام الإخواني، وتصور أن بالإمكان تصديق من لا يمكن تصديقه، فتمادي في خداع نفسه وحاول - وربما لم يزل يحاول- أن يجري ترتيبات لاتفاقات انتخابية بينه وبين الإخوان. ولكن إذا كان هذا البعض قد صعق - أو ادعي ذلك إرضاء للبعض- مما كان من هجوم فاضح وفادح علي الدولة المدنية وعلي حقوق المواطنة المتكافئة، فإن كثيرين وأنا شخصيا منهم لم يشعروا بأي قدر من الدهشة، فأنا شخصيا كنت أعرف جيداً أن «جمعة كشف المستور» قادمة حتماً بشكل أو بآخر. وما من جديد في ذلك. فقد أكده مؤسسو الإخوان منذ اليوم الأول، أكدوه نثرا وشعرا. فالمرشد الأول صاح في عام 1938 الدين شيء والسياسة غيره 00 دعوي نحاربها بكل سلاح أما السكرتير العام للجماعة في ذلك الحين الاستاذ عبد الحكيم عابدين فقد صاح هو ايضا مهددا ومتوعدا لنجرينها دماء جد ثائرة 00 وثورة الحق لا يدري لها أمد أو يرجع الشرع دستورا لأمتنا 00 فليحذر القوم أني منذر صعد (عبد الحكيم عابدين- ديوان البواكير) وقد تحدث الاستاذ البنا في «الرسائل الثلاث» إلي رجال جماعته علي أساس أنهم «المؤمنون» وقسم الناس اربعة أقسام «مؤمن- متردد- نفعي - متحامل» ويفسر ريتشارد ميتشل في كتابه «الإخوان المسلمون». بأن المسلم أما أن ينضم إلي الجماعة، وإما أن ينطبق عليه وصف من الثلاثة أوصاف الأخري. وللجماعة تاريخ طويل ومرير في قول ما هو غير حقيقي. ويمكن لأي باحث أن يكتشف ذلك ببساطة بالمقارنة بين آخر ما كتب الاستاذ البنا قبيل اغتياله وهو كتيب بعنوان «قول فصل» وبين ما كتبه رجاله من أعضاء الجهاز السري مثل : أحمد عادل كمال في النقط فوق الحروف - ومحمود الصباغ في حقيقة النظام الخاص- وصلاح شادي في حصاد العمر. فهو ينكر وبشدة أي علاقة للجماعة بالأعمال الارهابية، ويؤكد ويكاد أن يقسم أمام الجميع علي المصحف أن الجماعة بريئة تماما من أي فعل ارهابي بينما رجاله في مذكراتهم يتباهون بل يتنافسون بقسوة في نسبة كل الأفعال الارهابية إليهم ويؤكدون أنهم قاموا بها كجزء من نشاطهم في الجماعة، لن ندخل في التفاصيل لكن كتاب الأستاذ البنا موجود وكتب رجاله موجودة والتناقض واضح فادح بل فاضح، ويؤكد بوضوح ان الاستاذ البنا لم يقل الحقيقة بل تجنبها في أغلب الأحيان. ولكن ما أريد أن أوضحه هنا هو أن ذلك ليس صفة شخصية للاستاذ البنا، بل هو جزء أصيل من البنية الفكرية للجماعة، ولسنا بذلك نتقول علي الجماعة، بل ننقل عنها حرفيا وبالنص ونقرأ هذا في كتاب الاستاذ محمود الصباغ «حقيقة الجهاز الخاص» (ونلاحظ أن المرحوم الاستاذ مصطفي مشهور وعندما كان مرشدا للجماعة كتب مقدمة هذا الكتاب مشيدا بصاحبه وبما كتب). فماذا جاء في الكتاب الذي قرظه وكتب مقدمته مرشد الجماعة، لنقرأ وندهش «إن قتل أعداء الله غيلة هو من شرائع الإسلام، ومن خدع الحرب أن يسب المجاهد المسلمين وأن يضلل عدوه بالكلام حتي يتمكن منه فيقتله» ونقرأ أيضا ونتأمل «يجوز إيهام القول (أي الكذب) للمصلحة» (ص138). ونأتي بعد ذلك إلي ما نحن فيه. الإخوان يتفقون، يتعاهدون، يتعهدون وما من مرة يصدقون، انهم يستدرجون المتحالفين معهم ثم وفجأة يكشفون الغطاء عن خديعة أو مكيدة، فإن عاتبتهم بعد ذلك تنصلوا وتقولوا أو تعهدوا من جديد، لينقضوا عهدهم مرة أخري.. ومرات عديدة، وأبدا لا يفون بوعد أو عهد. وهكذا كان الأمر في جمعة كشف المستور. فقد اندفعوا وعبأوا وجمعوا وأنفقوا وحشدوا حشودهم وهتفوا ما شاء لهم من هتاف فإن عاتبتهم قالوا ليس رجالنا ولكنهم السلفيون أو الجهاديون، أو الجماهير التي لا تمتلك الخبرة أو الدراية. لكن ربط ما كان في الماضي بما يحدث في الحاضر يكفي تماما لاكتشاف الخداع وعدم الوفاء بالعهد. غير أن الجماعة تواصل مسلسل العمل المزدوج والمتناقض مع بعضه البعض فهي تحاول أن تستمر مع أحزاب وقوي التحالف الديمقراطي تحت زعم العمل المشترك من أجل دولة مدنية حديثة ، بينما تمد يدها الأخري في تحالف وثيق مع السلفيين الذين يجاهرون بتكفير الليبراليين والعلمانيين وكل من يدعو إلي الدولة المدنية. بل إن أحد قادة حزب النور السلفي يعتقد فيما يبدو أن الدولة المدنية قد سقطت بالفعل يوم «جمعة كشف المستور» فيعلن في تصريح لجريدة الأهرام التي أصبحت في هذه الأيام منبرا إخوانيا وسلفيا بامتياز، يعلن «لن نسمح بعودة الدولة المدنية مرة أخري» أما أحد قادة الحزب الإخواني فيصرح بأن الهدف هو استعادة مصر التي اختطفت منذ مائة وخمسين عاما، فنراجع الأحداث والتواريخ لنكتشف أن مصر قد اختطفت من وجهة نظره في عصر الخديو سعيد لأنه الغي الجزية التي كانت مفروضة علي الأقباط، وسمح لهم بأداء واجب الجندية. ومهما اطلنا فإننا سنجد مئات وآلاف من الوقائع التي تحذرنا من أن نثق في أي وعود أو عهود اخوانية. والاخوان يمدون ايديهم بزعم عمل قوائم انتخابية موحدة، فيفقد البعض حذره بل يفقد تاريخ حزبه ويندفع بحثا عن عدد من مقاعد البرلمان تحت مظلة اخوانية. غير مدرك لحقيقة المخطط الإخواني. واعتقادي أن للاخوان مخططا يمكن لأي انسان يدرك ألف باء التفكير الاخواني أن يستنتجه. وهو مخطط يسير عبر خريطة تتمدد وتمتد خطوة خطوة. هم والسلفيون ايدوا التعديلات الدستورية. هم والسلفيون رفضوا فكرة أعداد مجموعة قواعد مؤسسة للدستور الجديد. هم والسلفيون رفضوا فكرة الدستور أولا. هم والسلفيون اسرعوا بقبول مرسوم المجلس العسكري الخاص بانتخابات مجلسي الشعب والشوري. الجماعة تمنعت في البداية لكنها أعلنت - رغم تمنعها- قبولها لخوض الانتخابات علي أساسه. هم والسلفيون يستعجلون وبشدة إجراء الانتخابات. هم والسلفيون يستعدون لانفاق اكوام من المال الانتخابي، كتلك التي انفقت يوم جمعة كشف المستور. هم والسلفيون يستخدمون وبلا تردد الشعارات الدينية في اتهام خصومهم وفي الترويج لبضاعتهم. ثم بعد ذلك يستعد السلفيون - وفق اتفاق حدث فعلا- للنزول في الانتخابات بعدة قوائم بعيدا عن قائمة الإخوان. ثم يشارك الإخوان في الانتخابات بقوائم تضم - وفق احلامهم- حزب الوفد وعدة أحزاب صغيرة. ومع انعقاد البرلمان يعاد تشكيل الخريطة يتم نبذ الحلفاء من الغرباء سواء أكانوا وفديين أو غيرهم ليقوم تحالف جديد بين الكتل البرلمانية المتأسلمة (الإخوان- السلفيون- الجهاديون- الوسط وكل من لف لفهم) وبهذا التحالف الجديد يحكمون قبضتهم علي لجنة أعداد الدستور. ويحكمون قبضتهم علي عنق المستقبل المصري.. أو هكذا يتصورون. لكن مصر تحتاج إلي سيناريو آخر يقوم في مواجهة سيناريو الاخوان. وهو سيناريو يوحد تحت رايته كل القوي الوطنية والديمقراطية والليبرالية والعقلانية وكل المدافعين عن الوحدة الوطنية وعن المساواة بين المواطنين علي أساس من مواطنة صحيحة تحمي كل اطرافها تحت راية دولة مدنية حقة تقوم علي أساس مواطنة حقة. هناك إذن معسكران والمواقف لا تحتمل القسمة علي اثنين بل هي وبالتحديد تسألك هل تكون مع ائتلاف ينتهي بحكم الإخوان والسلفيين لمصر؟ أم تكون مع ائتلاف يسعي نحو دولة مدنية حقا ديمقراطية حقا؟ ولا يملك أحد في هذا الموقف الفاصل أن يزعم الوقوف هنا وهناك معا. فالوطنية والمصرية في هذا الوقت بالذات لا تحتمل القسمة علي اثنين مرة مع دعاة الدولة المدنية ومرة أخري مع دعاة الدولة الاخوانية والسلفية. بل هو موقف واحد..وهو مرة أخري لا يقبل القسمة علي اثنين.