المثير للدهشة أننا نكاد أن نتفق جميعا علي ما نريد. دستور جديد يراه البعض ديمقراطيا وليبراليا وتقدميا ويراه الآخرون وفق ما يريدون. وانتخابات رئاسية ومجلسي شعب وشوري. لكننا نختلف وبشدة حول الترتيب ماذا أولا ، وماذا ثانيا، أو ثالثا. والاختلاف هنا ليس معاندة ولا افتعالا لخلاف لكنه يمثل غوصا في الجوهر وتمسكا بطريق محدد. وإذا كان المجلس العسكري قد اختار الترتيب الآتي: مجلس شعب (في سبتمبر) ثم رئيس ثم دستور. فإن آخرين ومنهم كل القوي الديمقراطية والليبرالية المدافعة عن الدولة المدنية ومن بينهم نحن، قد اختاروا ترتيبا مغايرا يقول: دستور ثم رئيس ثم مجلسي شعب وشوري، ونستطيع أن تقرر أن هذا الاختلاف هو اختلاف جوهري وحاسم ولعلنا نستطيع أن نقرر وبموضوعية كاملة أنه يمثل حقيقة الاختلاف والخلاف بين القوتين المتصارعتين حول تحديد خريطة الطريق. وإذا اردنا المصارحة فإنها تمثل حقيقة الاختلاف بين القوي الوطنية والديمقراطية والليبرالية والتي تدعو إلي قيام دولة مدنية حقا، ديمقراطية حقا وليبرالية حقا وبين دعوة قوي الإسلام السياسي التي تمثلها أساسا جماعة الإخوان المسلمين وحزبها التي تقول ربما مجاراة لما هو سائد بدولة مدنية وإنما بمرجعية إسلامية. لكن التأمل في حقيقة الوضع المصري الراهن يمكنه أن يعطي انطباعا بأن هذا الاختلاف رغم جديته وجذريته هو مجرد اختلاف بين قوي وإن كانت مهمة لكنها ليست ذات ثقل حاسم، فهناك المجلس العسكري الأعلي الذي حدد خريطة طريق يقول: مجلس شعب- رئيس- دستور والذي يتبدي وكأنه يقول حاسما أو غير حاسم أنه يريد ترك هذا الوضع المعقد بل الشديد التعقيد وأن يسرع بمغادرة موقع المسئولية، وهو ما لا يعتقده الكثيرون. ولكي نتفهم الوضع بصورة أفضل نحتاج إلي قراءة لبعض تفاصيل الصورة. - تحرص جماعة الإخوان علي القول بأنها جاهزة تماما بل راغبة تماما في انتخابات مبكرة في سبتمبر وأنها قادرة تماما علي الاستيلاء علي ما تشاء من مقاعد فيه وإن كانت ستترفق بنا فتنال أحيانا 30% وأحيانا 50% ولن تزيد علي ذلك لمجرد الشفقة والرأفة بنا. ويتصدر الحديث الحاد باسم الجماعة مرشدها العام الذي يحذرنا بأن مقولة لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، قد سقطت ثم يأتي الأستاذ صبحي صالح الذي اختير وحده من بين أكثر من نصف مليون محام ليكون عضوا في لجنة تعديل الدستور وإذا كان اختياره لهذه المهمة مقصودا، فإن الجماعة تريد أن تقدمه باعتباره المرضي عنه من قبل المجلس العسكري، لكن تصريحات الاستاذ صبحي صالح تأتي حادة ومتشددة جدا بحيث توحي بأن اختياره كان خطأ وليس تعبيرا عن توجهات المجلس العسكري أو هذا ما نتمناه. فلو أن ما يقوله الاستاذ صبحي صالح في خطبه النارية والتي تكاد أن تنفي الإسلام عن كل من لا ينتمي للجماعة يمثل رأي من اختاروه وحده لعضوية لجنة تعديل الدستور فإنها ستكون كارثة حقيقية. ويمثل ما أعلنه دكتور يحيي الجمل في مستهل انعقاد الحوار القومي من أن الجماعة لا تريد المشاركة فيه لأنها تستعد للحصول علي ما تريد من مقاعد في مجلس الشعب ومن ثم تشكل بنفسها ولنفسها لجنة إعداد دستور علي مقاسها هي وليس علي مقاس الوطن، يمثل نقطة فارقة في اسلوب توجهنا إلي إعادة ترتيب خريطة الطريق. وليس تعبيراً عن خوف غير مستحق، فإن الراغبين في إعادة ترتيب مسار الواجبات المستحقة يرون أن ترتيب دستور - رئيس- مجلس شعب هو الأفضل والأكثر ديمقراطية. إذ يأتي دستور جديد خال من تلك المواد التي تكرست في دستور 71 والتي نقلت إلي الإعلان الدستوري ويعلم الله إن كانت قد أتت عن عمد متعمد أو عبر سهو غير مقصود والتي تمنح رئيس الجمهورية سلطات بلا حدود، ومن ثم يأتي رئيس غير فرعوني السلطات فلا يمكنه التأثير في صياغات الدستور أو في انتخابات الشعب. ويعتقد الراغبون في الترتيب الجديد أن إجراء انتخابات جادة وديمقراطية يجب أن يستند إلي معطيات أساسية، لا بلطجة أو عنف، ولا إنفاق مجنون يشتري الضمائر والأصوات، ولا استخدام شعارات تتاجر بالدين بالمخالفة للإعلان الدستور وللقانون ولمراسيم المجلس العسكري المتكررة. لكن هذه المعطيات لا يمكن أن تتحقق بلا جاهزية أمنية شاملة وحاسمة. ويعتقد البعض أن اصرار جماعة الإخوان علي إجراء الانتخابات في سبتمبر مقصود بذاته كي تأتي الانتخابات في ظل غياب أمني جاد وحاسم، ومن ثم يتاح أمامهم الانفاق غير المحدود الذي اعتادوا عليه، وترويع الخصوم والذي اعتادوا عليه، ايضا واستخدام الشعارات الدينية وهو ضروري بالنسبة لهم. ويرتبط بذلك فزع البعض من أن انتخابات في ظل شعارات ذات صبغة دينية قد يؤدي إلي توتر طائفي غير محمود العواقب. وقد لفت نظري مقال نشرته الهيلارد تربيون (23 مايو2011) يبدي دهشته من أن مظاهرات ميدان التحرير كانت ليبرالية بحيث ارتفع فيها شعار «ارفع رأسك فوق انت مصري» ثم تلتها أحداث امبابة حيث لجأ المسيحيون ولأول مرة في تاريخ مصر إلي العنف المسلح دفاعا عن كنيستهم، ثم في ماسبيرو وارتفع شعار «ارفع رأسك فوق انت قبطي» وإذ تتركنا دهشة الهيلارد تربيون بلا تفسير فإن تفسيرنا يقول إن الفتنة الطائفية عميقة الجذور وأنها قد ترتدي مسوح التصالح والقبلات لكن جذور التمييز لم تزل تؤرق الذين يستشعرون الاضطهاد. كذلك فإن تصريحات تنسب إلي هذا الطرف أو ذاك توقظ المخاوف وتدفع بالاقباط إلي الاصرار علي الحصول علي ضمانات مؤكدة تؤكد المساواة الحقة سواء في بناء دور العبادة أو حقوق التوظف أو غيرها من مظاهر التمييز الديني. وفي غمرة انشغال المجلس العسكري بقضايا الدستور وقانون ممارسة الحقوق السياسية وغيرها فإنه يترك ما هو أهم إلي حكومة بلا نبض حقيقي، فلا تقدم ولا تؤخر، وهكذا تتفاقم القضايا الاجتماعية.. الخبز-البوتاجاز- السولار.. انفلات الأسعار- الأجور- الأمن فتلتهب المشاعر ويستشعر الفقراء والمهمشون أن هموم الخبز وجوع الأطفال لاتحظي بالاهتمام. وهنا نكاد أن نستشعر خطرين وليس خطرا واحدا. الأقباط. والجوعي ويمكن دمجهما في خطرواحد هو افتقاد العدل والمساواة والتكافؤ وفوق هذا وذاك افتقاد الأمن. وما لم نحاذر ونجد حلا عاجلا.. أقصد حلا حقيقيا لهذه الأخطار الثلاثة، فإن اطلالة تفجرها تكاد أن تفرض نفسها علي المشهد السياسي والاجتماعي والديمقراطي في قريب يتعجل الانقضاض علينا فهل نستطيع الافلات منه؟ أتمني ذلك ولكن «ليس كل ما يتمني المرء يدركه».. خاصة أن الأخطاء تتأكد فتلهب مشاعر هي بذاتها ملتهبة. ويتبقي أن الأمر كله يتوقف علي أن تحسم جهتان أمرهما. أن يحسم المجلس العسكري رأيه ورؤيته أو بالدقة أن يفصح عنها فيعلن عما يضمر للحاضر وللمستقبل. وأن تحسم قوي الحلم بالدولة المدنية الديمقراطية والليبرالية والتقدمية والعادلة عن مدي قدرتها علي التوحد في عمل مشترك لمواجهة مخاطر الرؤية الأخري التي تتطلع خلفا وليس أماماً وإن تلونت أو حاولت أن تتلون. وبقدر هذا الحسم ستتحدد معالم ومواقف كثيرة.