نحو بناء جديد يتناسب مع روح الثورة الشعبية فرج عبدالفتاحاندلعت قوي الشعب المصري في 25 يناير لتعلن رفضها للظلم في شتي صوره، سياسية، واجتماعية، واقتصادية .. الخ، إننا في هذا المقال نعالج موضوع الاقتصاد المصري ليس بمعزل عن باقي الظواهر الاجتماعية الأخري، وإنما في إطار افتراضي نتمني أن نراه علي أرض الواقع ممثلاً في سيطرة أمنية كاملة علي الشارع، وغياب فلول النظام القديم وأزدهار سياسي تتوافق عليه كافة القوي السياسية داخل المجتمع عن قناعة كاملة بشعار ثورة 25 يناير حرية .. ديمقراطية .. عدالة اجتماعية. المؤشرات التي أعلنت أخيراً من قبل هيئة الرقابة المالية بالقوات المسلحة هي مؤشرات هامة، فزيادة عبء الدين العام، والسحب من الاحتياطي النقدي، وزيادة عدد السكان تحت خط الفقر، وغير ذلك من المؤشرات التي أعلنت، هي مؤشرات صادقة وصادمة في ذات الوقت ولكنها الحقائق الناتجة عن تطبيق سياسات غير مواتية لحالة الاقتصاد المصري خلال الثلاثين عاماً المنصرمة، وما تزامن من حالات فساد مفرط صاحبت هذه السياسات، بل أن هذه السياسات هي الحضانة التي أحتضنت كل مظاهر الفساد والنهب الذي وقع علي موارد هذا البلد. أننا لن نخوض في جوهر السياسات التي طبقت وكيف كانت هذه السياسات بيئة خصبة لتنامي الفساد والأفساد وذلك اكتفاء بالنقد الذي قدمناه علي صفحات جريدة الأهالي لهذه السياسات خلال السنوات السابقة بدءاً من الشروع في بيع القطاع العام بصدور القانون 203 لسنة 1991 مروراً بتنامي ظاهرة الدين العام الداخلي والاستيلاء علي أموال التأمينات الاجتماعية في محاولة لخفض الدين العام الداخلي، وانتهاء بموضوع الاقتراض من الخارج في شكل سندات دولارية، وقدمنا في هذه الانتقادات عديدا من الحلول، فلم نكتف بالنقد فقط وإنما كنا دائماً حريصين علي تقديم الحلول، غير أن الاتهام من قبل رجال الحكومات السابقة وأعضاء لجنة السياسات في الحزب الوطني " الحزب المنحل بحكم القضاء" هو أن المعارضة لا تقدم بدائل. وأيما كانت الأمور، فإننا سنوجه النظر دائماً للإمام غير أن الخبرة من دروس التاريخ سوف تظل حاكمة لرؤيتنا المستقبلية للاقتصاد المصري. 4 قضايا رئيسية أن المعالجة الاقتصادية يجب ان تقوم علي مفاهيم ثلاثة لا تنفصل عن بعضها، وإنما تتكامل مع بعضها البعض، المفاهيم هي المذهب الاقتصادي والتحليل الاقتصادي والسياسية الاقتصادية، وأن أي اقتصادي عليه أن يحدد بداية مذهبه ثم اختيار طريقة وأدوات تحليليه حتي يتمكن من تقديم رؤي وبدائل للسياسات الاقتصادية تتناسب مع المذهب وطرق وأدوات التحليل المستخدمة، هنا يتوقف دور الاقتصادي ثم يأتي بعد ذلك دور السياسي لكي يختار من هذه البدائل ما يراه مناسباً لظروف المجتمع، ولا أحد يستطيع أن ينكر ضرورة تحديد المذهب لأن الاقتصاد علم اجتماعي، ومغالطة كبري القول بأن العلوم الاجتماعية غير محكومة بأيديولوجية فالموقف اللاأيدلوجي في ذاته هو موقف ايدولوجي. أن تغير المواقف الايدلوجية نادراً ما يحدث فجأة، وطبيعياً أن يحدث بالتدريج في ضوء ظروف ووقائع تفرض هذا التغير ولكن حتي في حالة التغير يظل هناك ثوابت، لذلك فإني لا أجد أي حرج بل أفتخر بأعتناقي للاشتراكية كفكر ومذهب ونظام حياة، رأسمالية شعبية (وطنية) تؤمن بضرورة وجود المشروع الخاص طالما كان هذا المشروع لازم لتحقيق التنمية المجتمعية ويحقق المشاركة الشعبية، اشتراكية تؤمن بالأديان السماوية وتسمح للآخر بحرية العقيدة والعبادة، وحينما نلتقي مع هذا الآخر في سياق العلاقة المدنية وحقوق المواطنة فإنني أرفض أن أصفه بالآخر لأننا جميعاً نكون شخصا واحدا له كامل الحقوق، وعليه جميع الالتزامات تجاه وطنه وشعبه، وفي ظل هذه الظروف سوف نطرح العناصر الأساسية لرؤيتنا في إقامة البناء الاقتصادي الجديد. سياسة مالية تحقق أهدافا علي مستوي الفترة القصيرة (عام مالي): وتمثل لبنة قوية في بناء سياسة مالية مستقرة لفترات متوسطة وطويلة تقوم هذه السياسة علي الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وقد يكون من الأفكار الأولية المطروحة، وتحتاج إلي دراسات عميقة ومستفيضة، فرض ضريبة علي صافي الأرباح المتحققة من التعامل في سوق الأوراق المالية، فمستثمر الأوراق المالية معرض للخسارة مثلما هو معرض لتحقيق الأرباح، وبالتالي ففي نهاية كل عام من خلال سجل تعاملات بورصة الأوراق المالية يسمح لصاحب كل كود تعامل علي الثروة المالية أن نحسب صافي أرباحه لن تمس من قبل الدولة حيث تكون الضريبة علي صافي الأرباح أثناء العام، كما أن ضريبة الدخل يجب أن يعاد النظر في شرائحها فليس من المعقول أن تقضي العدالة بسعر موحد لصافي الأرباح مهما كانت قيمتها، أما فائض الهيئات الاقتصادية فيقتضي الأمر بالنسبة لهذا البند مراجعة القوانين الحاكمة لعملية توزيع الايرادات الخاصة بالهيئات (شركات البترول - هيئة قناة السويس) علي سبيل المثال حتي يكون صافي ايرادات هذه الهيئات معبراً عن حقيقة الاقتصاد فيها دون إسراف علي بنود إنفاق بذخي أو إنفاق في شكل مكافآت أو غير ذلك ومن ناحية أخري فيجب إحكام فحص الموارد العامة عند تحديد المادة الخاضعة للضريبة، والقضاء علي ثغرات التهرب قانونية أو غير قانونية، أما بالنسبة لبنود الإنفاق العام في الموازنة العامة فيجب أن يكون هناك تقشف ولا تشهد الموازنة أي إنفاق ترفي علي مشتريات الحكومة، مع تخصيص مخصصات يعتد بها في مجالي الصحة والتعليم، وإعادة النظر في مخصصات الأجور دون تكليف الخزانة العامة بأي أعباء إضافية في هذا المجال إذ يكفي عملية إعادة توزيع ما هو مخصص ووضع علاقة نسبية بين أدني حد للأجور وأقصي حد بحيث تكون هذه النسبة واحد إلي عشرين. سياسة التجارة الخارجية: سمحت منظمة التجارة العالمية لاعضائها وضع قيود مؤقتة (استثنائية) علي استيراد بعض السلع لفترات محدودة ولأسباب تقبلها المنظمة، فليس من المعقول مع دخول شهر رمضان المعظم أن نستورد من الصين فوانيس رمضان بمئات الملايين من الدولارات، ويعيش بيننا من لا يجد طبق الفول المدمس يسد به رمقه ساعة الإفطار، أما تنمية الصادرات، فيجب أن يحفز من يقوم بعملية التصدير، ليس بدعم يصرف لمن يستحق ومن لا يستحق، فدعم المصدرين يجب أن يكون لسلع محددة وبشكل مؤقت، أن هذه السلع التي يلوح في الأفق بالنسبة لها مجال تنافسي جيد يجب مساندتها ولكن لفترات مؤقته حتي تتمكن هذه الصناعات من تحقيق المنافسة علي المستوي العالمي. سياسة الاستثمار والتشغيل: لقد غاب عن الحكومات السابقة للثورة مفهوم التنمية وحل محله مفهوم النمو شتان بين المفهومين، وتحققت حالات نمو بعضها وهمي وبعضها حقيقي، ولكن حتي هذا النمو الحقيقي كان بفعل قوي خارجية أستفاد منها الاقتصاد المصري، ولكن الأهم والذي نستهدفه في المرحلة القادمة هو التنمية كعملية مركبة تستهدف إحداث تغير جوهري في هيكل الإنتاج، أن ذلك لن يتم بمعرفة القطاع الخاص وحده، ولكن القطاع الخاص يمكن أن يكون له دوره في هذه العملية، ولكن ليس الدور الرئيسي (والتجربة خير دليل علي ذلك)، أن المشاركة الشعبية سواء كانت شعبية خالصة، أو شعبية وحكومية هي الوسيلة الفعالة لتحقيق تنمية مستدامة إننا بحاجة لاستعادة تجربة مصنع الحديد والصلب الذي إنشئ عام 1954 وكان بمثابة نواة لتحويل منطقة حلوان إلي منطقة صناعية، لقد كانت المشاركة الشعبية وهي الأساس في تمويل إنشاء مصنع الحديد والصلب، أن مصر بحاجة لمشروع تنموي يستوعب بطالة شباب الخريجين علي مستوي الجمهورية ويحقق منافعه لكل المحافظات، مشروع كمشروع السد العالي، وحينما نقترض لهذا السبب ولاستكمال التمويل الوطني، فإن الأمر في هذه الحالة يكون مقبولاً، أما الاقتراض لسد عجز الموازنة العامة في الوقت الحالي، فهذا أمر يؤدي بنا إلي نهايات مؤسفة. السياسة النقدية: أن سياسة التعويم المدار ومساندة الجنيه المصري في مواجهة الدولار الأمريكي هي سياسة مقبولة، ولكن عمليه السحب من الاحتياطي النقدي لتحقيق هذه السياسة يجب أن تكون بضوابط تحقق الهدف، ومن ناحية أخري يجب أن تكون هناك قواعد رقابية علي دخول النقد الأجنبي والخروج به من مصر، مع ضرورة العودة لنظام تراخيص التصدير (ت.ص) ذلك النظام الذي تم إلغاؤه في بداية تسعينيات القرن العشرين، وحتي يعاد تدوير هذه الثروة النقدية داخل الاقتصاد المصري. هذه رؤوس موضوعات رأينا أن تكون مطروحة للحوار ثم إحالة ما يتم الاتفاق عليه للدراسة المتعمقة والمتأنية، وأن الأمر لن يستغرق كثيراً لو تم تحديد فلسفة الاقتصاد المصري في المرحلة القادمة.