التوك توك.. يهزم الأطلنطي! .. ومع ذلك يبقي النموذج الليبي الذي يقوده معمر القذافي.. هو النموذج الذي يستحق التأمل لأن نجاحه يقدم نموذجا جديدا في استخدام القوة المفرطة في مقاومة الانتفاضات العربية. يبدو أن حلف الأطلنطي قد فشل في مهمته فوق السماء الليبية.. وأن قوات القذافي تواصل تقدمها وزحفها بالأسلحة الثقيلة لإبادة ما يتسني لها إبادته من أبناء الشعب.. ومطاردة الثوار.. «شارع شارع.. وبيت بيت.. وزنجة زنجة.. إلي الأمام إلي الأمام.. ثورة ثورة».. علي حد قوله. وهكذا انتصر «التوك توك» علي الطائرات العملاقة التي تنطق بقدرة الإنسان علي الصنع والإتقان في عالم التحليق والطيران.. المزودة بأجهزة الاستطلاع والاسترشاد الإلكترونية.. للدفاع عن المصالح الغربية.. التي تهددها الحرب الأهلية. دول الحلف التي تعرف كل ركن في أجرام السماء.. والأقمار والكواكب.. وتنقل صور الأقمار الصناعية ما يجري في أنحاء الكرة الأرضية ومناكبها.. فشلت في الاهتداء لمكان القذافي.. الذي يتفنن في الخروج بين أنصاره في سيارة مكشوفة ملوحا لشعبه ولحلف الأطلنطي بالتهديد والوعيد بجعله كالعهن المنفوش. وهكذا انتصر «التوك توك» علي حلف الأطلنطي.. وأذاقه مرارة الذل والهوان.. وقلة القيمة، ولم يعد علي لسانه سوي أغنية محمد عبدالوهاب «أحبه مهما أشوف منه ومهما الناس قالت عنه». إنه ذل المحبين.. الذي يحتمل الظلم والغشم والضلال! ولذلك فقد كانت الضربات الجوية التي وجهها حلف الأطلنطي للعقيد القذافي.. هي ضربات الحبيب للحبيب.. والتي يصفها المثل الشعبي الشائع بأنها أشبه بأكل الزبيب. كانت طائرات الأطلنطي تلقي علي القذافي بأكياس الزبيب.. كي لا تراه يوما بدمع منهمر وقلب منفطر علي نحو ما يجري لرفاقه في سجن طرة. هل من المعقول أن يفشل حلف الأطلنطي.. في إلقاء القبض علي القذافي.. كما فشل قبل ذلك في القبض علي أسامة بن لادن؟ هل من المعقول أن يعلن حلف الأطلنطي منذ أيام فشله في أفغانستان.. وعزمه علي خفض قواته هناك والبالغة 150 ألف جندي تدريجيا بهدف الانسحاب الكامل في نهاية سنة 2014.. وتسليم مسئولية الأمن للقوات الأفغانية التي لن تستطيع الوقوف في وجه قوات طالبان.. لمدة شهر واحد؟ نحن لسنا في حاجة إلي تبرير. نحن في حاجة إلي تفسير.. للازدواجية الأخلاقية التي تمارسها القوي الكبري.. إزاء العديد من القضايا الدولية.. لاسيما ونحن نري الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان علي أيدي نظم بعينها.. من بينها نظام العقيد القذافي.. والقوي الكبري.. لا تتحرك.. وإذا تحركت.. فهي تتحرك من باب العتاب المر تارة.. ومن أجل إلقاء الزبيب تارة أخري. نحن أمام مشهد سوف يقف التاريخ أمامه طويلا.. لسبب بسيط.. وهو أن العقيد القذافي.. لم يكن يكف عن ترديد شعار «السلطة كلها للشعب» وأنه لا يملك منصبا يمكن أن يتنازل عنه.. وأن الشعب هو صاحب الكلمة الأولي والأخيرة.. وأن المجالس الشعبية هي صاحبة القرار.. إلخ. وعندما قال الشعب كلمته.. وطالبه بالتنحي وإتاحة الفرصة أما إقرار مبادئ تبادل السلطة، واحترام حقوق الإنسان.. انطلقت قوات القذافي بالدبابات والمدرعات تسحق الشعب الثائر.. وتحرق جثامين الشهداء. وعندما دعت منظمات حقوق الإنسان.. الدول الكبري لوقف المذابح التي ترتكبها قوات القذافي.. تدخل حلف الأطلنطي علي النحو الذي شهدناه.. ولم تفلح عملياته العسكرية.. حتي كتابة هذه السطور.. في الحد من سعير الحرب التي يشنها ضد شعبه الأعزل الذي احتمل حماقاته لأكثر من 40 سنة. ومن الطبيعي أن يتساءل البسطاء من أمثالنا عن السروراء عدم استهداف القذافي بمقر إقامته لإنهاء الأزمة التي طالت.. والتخلص من جنون هذا الرجل وحماقاته.. ووضع حد لهذا اللغط.. فيقال إن قرار الأممالمتحدة لا ينص علي استهداف القذافي. قرار الأممالمتحدة ينص علي مطالبة القذافي بوقف الهجوم علي المدنيين.. ولا ينص علي استهدافه! ويثار.. هنا.. سؤال آخر: هل يمكن إيجاد حل سياسي لهذه الأزمة.. وإيجاد تسوية سلمية تسمح للعقيد بالخروج الآمن من طرابلس؟ هل هذا ممكن؟ بالطبع لا.. لأن هذا الحل يقتضي.. ببساطة.. التفاهم مع القذافي.. والحوار معه حوار العقلاء.. ثم الدخول في مبادرات عربية.. تارة.. ومبادرات دولية تارة أخري.. تكون ميليشيات القذافي خلالها قد قضت علي الشعب الليبي بأسره. الحلول السياسية مع الديكتاتوريات العربية التي استمرت لسنوات تتراوح ما بين 30 و40 سنة.. هي أشبه بالنحت في الصخر.. ولا يمكن أن تصل إلي نتائج تسمح بالتغيير والتجديد والتحديث.. أو الاستجابة للمطالب الشعبية. الديكتاتوريات العربية التي أدمنت السلطة.. وأحاطت نفسها بجيوش من المنافقين.. وجيوش جرارة من أجهزة التجسس والتصنت علي دبيب النمل في كل ركن من أركان البلاد.. وكونت الميليشيات المأجورة.. لتأكيد شعبيتها.. هي ديكتاتوريات لها خصوصيتها. هذه الخصوصية نابعة من أوضاع.. حرصت هذه الديكتاتوريات علي تكريسها.. وتعميقها.. كشراء ولاء القبائل.. أو شراء ولاء بعض الرموز من رجال الدين.. الذين يروجون للحاكم بغير علم في قوله تعالي «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» ويروجون لفكرة الطاعة المطلقة دون التأكيد علي أن هذه الطاعة مقيدة بعدم مخالفة تعاليم المولي عز وجل. ناهيكم بالطبع عن المساندة غير المسبوقة لدعم منظومة التخلف الثقافي.. التي تكرسها منظومة التعليم الهابط.. وانتشار الأمية.. بين أعداد كبيرة من أبناء الشعب.. وبين النخبة التي تمثله في المجالس النيابية. ولذلك نلاحظ أن الديكتاتوريات العربية.. التي لم تحصل علي الحد الأدني من الثقافة.. قد حرصت علي تدني مستويات التعليم في بلدانها.. بانتهاج سياسات تحط من قدر التعليم تارة ومحاربة المثقفين من أرباب القامات العالية.. تارة أخري. لم يكن للمثقفين أي دور في النظم الديكتاتورية الحاكمة في العالم العربي.. وباتت هذه النظم تعتمد علي مجموعة كبيرة من الصبية الذين يظهرون في أجهزة الإعلام للترويج لفكرة الاستقرار وفلسفة الاستقرار. كان الإعلام الكاذب.. بمثابة المخدرات التي تقدمها الديكتاتوريات العربية.. لصرف الوعي العربي العام عن قضايا الشعوب ومشاكلها ومعاناتها. وهكذا بقي حسني مبارك متربعا علي عرش السلطة 30 سنة.. وبقي معمر القذافي أكثر من 40 سنة.. ولم يعد يشغلهما سوي توريث السلطة للأبناء. لم يكن في مصر مرشح للرئاسة سوي جمال مبارك ولم يكن في ليبيا من يصلح لحكم الجماهيرية العظمي سوي سيف الإسلام وشقيقه هانيبال! وهكذا كان الحال في جميع الديكتاتوريات العربية.. التي غابت فيها الشعوب عن المشهد السياسي.. ولم يعد أحد يحسب لها حسابا.. وباتت الثقافة السائدة في حسابات السياسة الدولية.. تتلخص في مخاطبة الحكام فقط.. وليس مخاطبة الشعوب. الدول الكبري لم تكن تضع مواقف الشعوب العربية في حساباتها.. وإنما كانت تعتمد علي توجيه الرسائل السياسية للديكتاتور مباشرة. كانت الدول الكبري.. التي تحرك قوات الأطلنطي في ليبيا.. هي صانعة الحكام العرب.. وهي التي اعتادت أن تكون المحركة والمخططة لسياساتها في المنطقة.. سارت السياسة الأمريكية منذ خمسينيات القرن الماضي علي نهج صناعة الحكام العرب. الآن.. وبعد الثورات الشعبية المجيدة.. بدت ملامح مرحلة جديدة تظهر في الأفق.. لم تحركها واشنطن ولم تخطط لها. وظهرت الشعوب العربية علي المسرح السياسي لأول مرة منذ عقود طويلة، وفرضت نفسها علي الواقع السياسي.. الذي اعتمد لسنوات طويلة.. علي الديكتاتوريات العربية.. وكان من الطبيعي أن تعيد الدول الكبري حساباتها من جديد.. ويحدث الشقاق الحالي في التعامل مع الثورات السورية واليمنية والليبية. بالنسبة للثورة الليبية.. لم يعد سرا أن انقساما قد وقع بين القوي الغربية الكبري حول التعامل مع الأزمة التي طالت.. وأن أصواتا قد ارتفعت تنادي بالإبقاء علي الأوضاع العربية.. علي النحو القديم.. وعدم تكرار ما حدث في تونس ومصر.. حفاظا علي المصالح الغربية في العالم العربي.. وتري أن نجاح معمر القذافي في القضاء علي الثوار.. يشكل نموذجا جديدا.. يمكن الاقتداء به في دول عربية أخري. وأصوات أخري تري أنه يتعين علي الدول الغربية التعامل مع أحداث كل دولة عربية علي حدة.. نظرا لتفاوت الأوضاع في كل دولة.. إلخ. ومع ذلك يبقي النموذج الليبي.. الذي يقوده معمر القذافي هو النموذج الذي يستحق التأمل.. لأن نجاحه يقدم نموذجا جديدا في استخدام القوة المفرطة في مقاومة الانتفاضات العربية.. وإسكات أصوات المعارضة بالأسلحة الثقيلة. فمن المشاهد الفريدة.. والتي يقدمها النموذج الليبي.. خروج القذافي في موكب من السيارات بين أنصاره وأعوانه.. يدعو لمواصلة القتال.. وخروج ابنته عائشة تلقي الخطابات السياسية تنتقد فيها قرار مجلس الأمن الخاص بحماية المدنيين في ليبيا. ووتساءل: من هم المدنيون الذين تحمونهم؟.. اتركوا سماءنا وخذوا معكم طائراتكم وصواريخكم! نموذج فريد.. فعلا.. يمكن أن يتحول إلي نظرية سياسية يجري تدريسها في المعاهد السياسية. نموذج القذافي في القضاء علي الثورات الشعبية. والطريف في الموضوع أنه في الوقت الذي تتظاهر فيه طائرات حلف الأطلنطي بقصف مواقع العقيد القذافي خرج علينا أيمن الظواهري من مكمنه وسط تنظيم القاعدة في أفغانستان يطالب الشعب الليبي بمقاومة قوات حلف الأطلنطي كي لا يصبح التدخل الأجنبي بمثابة «الغزو» ويطالب الجيوش العربية (!!) بالتدخل لإسقاط العقيد القذافي! عالم مجانين! مجانين في الداخل.. ومجانين في الخارج.. ولاتزال الأمة العربية والإسلامية.. ترقب التصرفات والتصريحات.. التي تصدرمن صنعاء ودمشق وطرابلس.. وهي تنتظر زعيما يسقط.. أو آخر يهرب.. أو ثالث يقف في قفص الاتهام.. وكأنها تنتظر سحابا لا يسح.. ولا يمطر.. وكل ما يشغلها.. هو اختيار أمين عام جديد لجامعة الدول العربية.. يعبر عن وحدة الأمة العربية.. ويشترط أن يكون مصريا! ووسط هذه المعمة.. التي تجتاح الأمة العربية من المحيط إلي الخليج.. سيقوم رئيس الوزراء عصام شرف بجولة عربية للترويج للمرشح المصري.. تضاف إلي المشهد الحالي الذي تتجسد فيه كل التناقضات.. ابتداء من هزيمة الأطلنطي أمام التوك توك.. وحتي شهادة زكريا عزمي لتبرئة حسني مبارك من قتل المتظاهرين في ميدان التحرير!