ليس إلا... خواءٌ يشبه بعضُه بعضاً. عبثاً تفتش عن تفاوت، وإن طال النظرُ أو رجع البصرُ كرَّةً تلو كرَّة. خواءٌ يحْكِم وِثاقه حاكمون لم يحَكِّمهم سواهم، يحرسون ترهُّلَ اللحظات فيهم ومن حولهم، ويطيلون عمرَ الخواء. يتفقون ويختلفون، يتناسلون ويشيخون، يقتلون ويقتلون، ثم يأتي نسلُهم من بعدِهم يتفقون ويختلفون ويتناسلون ويشيخون ويقتلون ويقتلون. يتفقون علي دوام الخواء. يختلفون علي هجاءِ الاسم ولونِ العَلَم ولحنِ النشيد ومثقالِ القيد وختمِ الوزير ورداءِ السفير: يسمي أحدُهم خواءَه "إمارةً"، ولكن جارَه لعلةٍ ما، لا يعلمها هو ولا يدركها غيرُه، يسميه "مملكة". ولعلةٍ أخري، مثل سابقتها، يسمي الآخرُ خواءَه "جمهورية". يشذُّ أحدهم، وما في شذوذ الحاكمين من عيب، ويسميه "سلطنة"، ولكن واحداً آخر يلقي بكل الأسماء جانباً ويصوغ اسماً جديداً للخواء، "جماهيرية". يتفقون علي افتراق المُسَمَّي عن اسمِه، والعَلَم عن عُلوِّه والنشيد عن مداه. يختلفون علي من يخلفهم علي ميراث الأسماء والأعلام والأناشيد والأثقال والوزراء والسفراء: يوصي واحدهم لابنه، وآخر لشقيقه، وثالث لنديمه أو حامل سيفه. يتفقون علي نفي السؤال الصعب: دولٌ هذه أم متاع؟ يختلفون علي لفظ الجواب السهل: بل متاعٌ إلي غير حين. يتفقون علي أوصاف عهدهم: الجديد، السعيد، الرشيد، السديد، المجيد، المديد. يختلفون علي عدِّ عبيدهم. يتفقون علي العدوِّ: شعوبهم. يختلفون علي الحليف: رماحهم أو رماح غيرهم. يتفقون ويختلفون، يتناسلون ويشيخون، يقتلون ويقتلون، ثم يأتي نسلُهم من بعدِهم يتفقون ويختلفون ويتناسلون ويشيخون ويقتلون ويقتلون، والخواءُ لا يبرأ من خوائِه. خواءٌ. عبثاً تفتش عن تفاوتٍ. خواءٌ، ليس إلا. ولا شيء أكثر نُحي الشيخُ المريضُ أو تنحي، وحلَّ محلَّه شيخٌ آخر ينحدر من "فخذ" آخر في نفس العائلة، وفي الظل ينتظر شيوخٌ من هذا "الفخذ" وذاك أن يحين حين الشيخ الجديد، وهو آتٍ لا ريب فيه، فيتبوأ كلٌ مكانَه المأمول في دواوين الإمارة. غضب الأقرباء والنُسباء من "فخذ" المريض حيناً، وأصروا علي "حق" كبيرهم في خلافة الأمير الراحل. استُدعيت، في غمار الغضب، أحكامُ "دستور" ينص علي إمارة وراثية يتوارثها أحفادُ الأمير الكبير الذي جاء إلي سدة الحكم قبل أربعة أعوام من أفول القرن التاسع عشر، وبنود "قانون" لتوارث الحكم في الإمارة يقضي بتناوب الحكم بين "الفخذين". أُشير من طرف خفي إلي أن الأمير الراحل لم يكن أوفرَ صحة من الشيخ الذي يراد تنصيبه، ولكن كرسي الإمارة ظل قابعاً تحت جسده العاجز زهاء عقد من الزمان دون أن يقدر هو علي تركه أو يجرؤ غيرُه علي إزاحته. ربما سيقت الحُجَّةُ أيضاً: ألم يكن الشيخ المريض ولياً للعهد منذ سنوات طوال، ولم يحُل مرض الولي دون استمرار العهد، فلماذا يحال الآن بينه والانتقال من سُباته في قصره إلي سُبات أعمق في قصر الأمير؟ تنقل رُسل بين "الفخذين" لحمل الكبراء من "الفخذ" الذي حان دورُه في الولاية علي مبايعة الشيخ الذي لم يحنْ دورُ "فخذه". بدا أن الكبراء أذعنوا حرصاً علي صلات القربي بين "الفخذين"، ولكن بقي أن يكتب للشيخ كتابُ تنازل، وتُعقد للشيخ الآخر جلسةُ مبايعة. تلكأت الشيخة، زوجة الشيخ المريض، في تسليم كتاب التنازل إلي من ينتظرونه، وطلبت في المقابل أن تحتفظ بلقب السيدة الأولي وحرم سمو الأمير، وأن تُخصص لها مخصصات أميرية تصل إلي أربعة وثلاثين مليون دولار سنوياً، وأن تُمنح طائرة خاصة من الديوان الأميري لرحلاتها، ثم أن يعين نجلها الشيخ، المسمي باسم جده، مستشاراً في ديوان ولي العهد المقبل. ربما لم يكن لائقاً منها أن تصر علي اللقب، فالأمير القادم له هو الأخر "حريم" لا يدري عددهن، ولابد أن تكون إحداهن هي الأولي، ولكن ليس من اللائق أيضاً أن يتساءلَ سائلٌ عما كانت الشيخةُ ستطلبه من أموال أو طائرات لو وُضع شيخُها علي كرسي الإمارة... أتطلب وهي مقصد الطالبين؟ في نهاية المطاف، لم يطق المنتظرون صبراً، فعزلوا المريض وبايعوا الأقل مرضاً. نُحي "فخذ"، وذهبت الإمارة إلي "فخذ" سواه. ولا شيء أكثر، لا شيء. ليس هناك سوي لغةٍ آسنةٍ لا تفضي إلا إلي صحراء يتوسطها "فخذان" لا يدلان علي بشر أو بهيمة يتعاركان علي كرسي لا ينتمي إلي وطن أو زمن. ولا شيء أكثر. لا شيء. لغةٌ تحض علي التثاؤب، لا يؤرقها سؤال ولا تُحيل إلي أبعد من حدودها. صحراء من كل اتجاه لا سر فيها ولا دهشة. فخذان مُتخمان بالهزال لا حَوْلَ لهما ولا حيلة. عِراك بين باطلَين لا فخر فيه ولا انتصار. صحراء من كل اتجاه. ولا شيء أكثر. لا شيء.