مخاطر الانقضاض علي الثورة شعر المصريون جميعا بالفخر عندما رفضت القوات المسلحة المصرية إطلاق النار علي المعتصمين والمتظاهرين في ميدان التحرير خلال ثورة 25 يناير، ثم إعلان المجلس الأعلي للقوات المسلحة وقوفه إلي جانب الثوار وطلبه من حسني مبارك - رئيس الجمهورية - التخلي عن منصبه وتولي المجلس لسلطة الحكم في 11 فبراير 2011، ثم حل مجلسي الشعب والشوري وتعطيل العمل بدستور 1971 الاستبدادي، والإعلان عن فترة انتقالية لمدة 6 أشهر يتم خلالها الانتقال إلي وضع جديد ديمقراطي. ورغم تخوف البعض من تكرار تجربة 1952 عندما استمرت الفترة الانتقالية بعد نجاح ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة لمدة 4 سنوات حتي صدور الدستور المؤقت عام 1956 وما تلاه من دساتير لا تحقق ما وعدت به ضمن المبادئ الستة المشهورة من إقامة الديمقراطية وحياة نيابية سليمة وصولا إلي دستور 1971 الذي قنن الاستبداد وأغلق الباب أمام التحول الديمقراطي.. إلا أن الغالبية راهنت علي اختلاف الظروف والأوضاع، بدءا باختلاف طبيعة القوات المسلحة بعد حرب أكتوبر 1973، والتباين بين الأوضاع التي تولت فيها القوات المسلحة السلطة عام 1952 وعام 2011، ففي عام 52 كانت القوي الشعبية الساعية للتغيير قد وصلت إلي طريق مسدود وبدا حلم الثورة والتغيير مجهضا رغم انتفاضة العمال والطلبة عام 1946 وإضراب البوليس عام 1947 وحريق القاهرة في 26 يناير 1952 وإعلان الأحكام العرفية وإزاحة حزب الوفد عن الحكم، وتحرك تنظيم الضباط الأحرار ليقوم بالانقلاب علي الحكم في23 يوليو 1952 ويسقط النظام الملكي ويعلن الإصلاح الزراعي والمبادئ الستة «تصفية الإقطاع وسيطرة رأس المال علي الحكم والجلاء والقضاء علي الاستعمار وإقامة الديمقراطية وحياة نيابية سليمة». بينما كانت الصورة مختلفة عام 2011 كانت الحركة الشعبية في صعود، ووصلت قمتها في انتفاضة شباب التحرير يوم 25 يناير التي تحولت إلي ثورة شعبية بانضمام كل القوي والفئات والطبقات إليها وساهم في الوصول إلي هذه اللحظة والمشاركة فيها الأحزاب والقوي السياسية التي صاغت بما طرحته من برامج ووثائق للتغيير والمعارك السياسية والجماهيرية التي خاضتها ونزولها للشارع في الفترة من 2003 إلي 2007 والمظاهرة الكبري التي نظمها حزب التجمع في 10 سبتمبر 2005 عقب انتخاب مبارك لفترة رئاسية خامسة رافعا شعار «انتخاب مبارك.. باطل باطل باطل» والهتاف ب «يسقط يسقط حسني مبارك»، وحركة كفاية عام 2004 التي رفعت شعار «لا للتمديد.. لا للتوريث» والدور الذي لعبته الصحف الحزبية ثم الصحف الخاصة والقنوات الفضائية الخاصة المصرية والعربية في إشاعة الوعي، والإضرابات العمالية الكبري عامي 2006 و2008 التي تجاوزت المؤسسات النقابية الرسمية المخترقة من الأمن والإدارة وطرحت بقوة الحقوق العمالية، ثم حركة 6 أبريل وثورة الاتصالات والشبكة العنكبوتية ودورها في الحشد والتنظيم من خلال الفيس بوك وتويتر، وتعود الفئات المختلفة ممارسة الاحتجاج دفاعا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتي بلغت ذروتها بإضراب موظفي الضرائب العقارية، وهو أول إضراب للموظفين منذ ثورة 1919، وجاء تحرك القوات المسلحة استجابة لهذه الثورة الشعبية التي ماتزال في عنفوانها، وقادرة دوما علي ممارسة الفعل الثوري والتصدي لأي محاولة لسرقة الثورة أو الانقضاض عليها. مخاوف ومع ذلك سادت مشاعر القلق والخوف علي الثورة في الأيام الأخيرة. فقد تكرر تدخل «الشرطة العسكرية» في الأسابيع الماضية لفض اعتصامات أو إضرابات واستخدمت القوة في التعامل مع المعتصمين أو المضربين، وبلغت هذه الممارسة القمعية ذروتها ضد أساتذة وطلبة كلية الإعلام في جامعة القاهرة المطالبين برحيل عميد الكلية «حزب وطني»، عندما اقتحمت الشرطة العسكرية الحرم الجامعي واعتدت علي الطلبة والأساتذة المعتصمين لتعيد إلي الذاكرة دور «البوليس الحربي» عام 1954 في بداية الثورة والجرائم التي ارتكبها ضد القوي السياسية والنقابية والطلابية المطالبة بالديمقراطية وعمليا التعذيب والقتل في السجن الحربي. قبل ذلك تعددت الممارسات التي توشي باتجاه المجلس العسكري الانفراد بالسلطة وتغييب الأحزاب والقوي السياسية وتجاهلها، فاختار لجنة لتعديل الدستور يرأسها مفكر سياسي وقاض سابق من قضاة مجلس الدولة «القضاء الإداري» يتمتع باحترام وتقدير عال بين المثقفين والساسة المصريين، ولكنه انتمي بوضوح في السنوات الأخيرة إلي تيار الإسلام السياسي، وبقية أعضائها قضاة عملوا كمستشارين لوزير العدل أو رئيس مجلس الشعب وشاركوا في صياغة التشريعات السيئة التي صدرت في عهد مبارك، والعضو السياسي الوحيد في اللجنة ينتمي «بالصدفة» لجماعة الإخوان المسلمين. تخبطات ورفض المجلس العسكري الاستماع لتحذير الأحزاب من أن تعديل الدستور يعني إعادة دستور 1971 إلي الحياة بعد أن سقط بثورة 25 يناير وتولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة السلطتين التنفيذية والتشريعة، وأصر علي الاستفتاء علي هذه التعديلات ثم عاد بعد موافقة الناخبين في الاستفتاء علي هذه التعديلات، ليعلن أن دستور 1971 لن يعود للحياة وأنه سيصدر إعلانا دستوريا يضم هذه المواد المعدلة ومواد أخري «لا يعرف أحد ما هي» لتكون دستورا للفترة الانتقالية، رافضا ما أجمعت عليه أغلب الأحزاب والقوي السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وفقهاء القانون بأن يتم فورا - وبعد إصدار قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية وإلغاء حالة الطوارئ والقوانين المقيدة للحريات الخاصة بالتجمع والتنظيم والأحزاب - انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد يتم علي أساسه الانتخابات التشريعية والرئيسية. ثم نفاجأ أن مجلس الوزراء انتهي من إعداد خمسة مشاريع قوانين خاصة بتجريم الأحزاب والتظاهر، ومباشرة الحقوق السياسية والأحزاب ومجلسي الشعب والشوري، وأن المجلس وافق عليها في سرية تامة ودون أي مناقشة أو عرض علي الأحزاب والقوي السياسية والنقابات - المخاطبة أساسا بهذه القوانين - ودفع بها إلي المجلس العسكري لتصدر بمراسيم منه، وربما تكون قد صدرت فعلا قبل نشر هذا المقال! انتهاك الحريات وفي حدود ما تسرب حول مشروع قانون تجريم الاعتصام والاحتجاج والتجمهر، والذي يعاقب كل من يقوم - أثناء سريان حالة الطوارئ - بوقفة احتجاجية أو اعتصام أو تجمهر أو يشارك في ذلك، وبحيث يترتب علي تلك الوقفة أو الاعتصام أو التجمهر منع أو تعطيل أو إعاقة إحدي السلطات العامة أو إحدي جهات العمل العامة أو الخاصة عن أداء أعمالها، أو الإضرار بالوحدة الوطنية أو السلام الاجتماعي أو الإخلال بالنظام العام.. فهو قانون بالغ الخطورة ينتهك حريات وحقوق أساسية للمواطنين. فقد يبدو المشروع وكأنه قانون مؤقت لا ينطبق إلا في ظل إعلان حالة الطوارئ، ولكنه في الواقع قانون دائم، فالطوارئ في مصر هي الأصل ورفعها هو الاستثناء، فالطوارئ معلنة في مصر منذ 6 أكتوبر 1981 أي منذ ما يقرب من 30 عاما، وخلال الفترة من 1939 وحتي اليوم «أي خلال 72 عاما» لم ترفع الطوارئ إلا 5.17 عام موزعة علي 6 فترات. كذلك فالقانون يصادر حق التظاهر والإضراب والاحتجاج وهي حقوق مضمونة بنص الدستور المصري (مادة 54) والمواثيق والعهود الدولية، خاصة المادة (8) بند (1) فقرة «د» من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 16 ديسمبر 1966 والنافذ منذ 3 يناير 1976. إن هذه الممارسات تنذرنا بأن خطر الانقضاض علي الثورة يتزايد، خاصة في ظل إصرار جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين علي إدخال الدين في السياسة، كما حدث خلال الاستفتاء علي التعديلات الدستورية. وهو ما يفرض علي الأحزاب والقوي السياسية والمنظمات الديمقراطية وائتلافات الشباب الحريصة علي الثورة والمؤمنة بشعاراتها «عيش - حرية - عدالة اجتماعية» أن تتجمع وتعمل معا لكي لا يعود النظام الاستبدادي من جديد، ولكي نقطع الخطوات الضرورية نحو الديمقراطية بسرعة وثبات.