الانفلات من القيد عبر مثقفون كثيرون من الكتاب والفنانين والمفكرين بشكل خاص عن فرحة غامرة بانتصار ثورة 25 يناير، وكانوا مثلهم مثل قطاعات كثيرة من الشعب المصري قد فوجئوا بما حدث في ذلك اليوم المجيد وفي أيام الثورة التالية دون أن يضعوا في الاعتبار فكرة التراكم الذي أحدثته مئات بل ربما آلاف من الاحتجاجات الفئوية من إضرابات واعتصامات ومظاهرات قام بها ملايين المصريين تعبيرا عن رفض الواقع البائس والتطلع إلي المستقبل. بينما كان القطاع النظيف من المثقفين الذين لم ينخرطوا في مواكب النفاق للحكام قد سقط في وهدة الألم بل ربما أقول اليأس من التغيير بينما تفاعلت - في غيبة منهم - كل عوامل الغضب والتمرد التي أشعلت الثورة فيما بعد. والآن يجد المثقفون النقديون أنفسهم أمام مهمات جسيمة هي أكثر أهمية من تلك التي واجهوها في السابق، وعلي رأس هذه المهمات يأتي الانفلات من القيود. فلم يكن الوزير السابق فاروق حسني كاذبا حين قال إنه من خلال المجلس الأعلي للثقافة كان قد أدخل أهم المثقفين إلي الحظيرة، ورغم أنه نفي بعد ذلك أن يكون مقصده هو تدجين المثقفين، والحق أن المثقفين الذين دخلوا إلي الحظيرة لم يكونوا كلهم مدجنين بل كانوا في الغالب الأعم يائسين من إمكانية التغيير، وكانوا يعانون من عذاب الضمير أو الوعي الشقي كما وصفه أحد الفلاسفة وللتدليل علي هذه الحقائق يحتاج الإبداع الأدبي والفكري لهؤلاء الذين قيل إنهم دخلوا إلي الحظيرة أن ندرسه دراسة متأنية نزيهة لنتعرف علي تلك المسافة الكبيرة أحيانا بين ما كان معلنا من مواقف هؤلاء السياسية وبين الرسائل النقدية القوية التي حملتها إبداعاتهم، ونتذكر في هذا الصدد قول نجيب محفوظ الذي كان مشهورا بمحافظته السياسية وحساباته الدقيقة حين سأله أحد الصحفيين عن موقفه من حكم عبدالناصر فقال له اقرأ كتبي لأنه لم يشأ أن يقدم ردا كاذبا. والآن وقد سقطت القيود، وليس لدي الوزير المثقف الديمقراطي «عمادالدين أبوغازي» حظيرة، وحتي لو شاء «عماد» أن يقلد من سبقوه فإن المثقفين الذين يحتمون بثورة الشعب لن يقبلوا الدخول إليها، بل إنهم سوف يتقدمون لفتح الأبواب المغلقة.. أقول الآن إن مهمتهم لم تعد إبداعية فحسب وإن كان للإبداع الأولوية، ولكن لهم أيضا مهمة سياسية فكرية تنويرية بامتياز وتتوقف قدرتهم علي إنجاز هذه المهمة علي جهد ذاتي أولي هم مطالبون بأن يبذلوه ليتخلصوا من الرقيب الذاتي الذي قبع في لا وعي كل منهم عبر عشرات السنين من القمع والحصار والملاحقة والرقابة، ولا ينسي المثقفون قولا شهيرا للكاتب المفكر توفيق الحكيم حين قال لصحيفة أجنبية «هوه أنا مجنون أكتب اللي أنا عايزه أو بافكر فيه». والرقيب الذاتي لا يولد داخل المبدعين والمفكرين بسبب حصار السلطات المستبدة فحسب ولكن سلطة المجتمع المحافظ بل الرجعي كثيرا ما تكون أقسي وأشد، وفي سنوات الديكتاتورية نشأت في المجتمع المصري - لأسباب كثيرة - قوي سلفية محافظة ترفع شعارات دينية وتلاحق المفكرين الأحرار بالتكفير والقتل وتئد في المهد كل محاولات الاجتهاد في الفكر الديني، وتهمش - بما لها من نفوذ اجتماعي وروحي - كل أشكال التأويل المستنير للنص الديني لأنهم يشكلون امتدادا لكل ما هو رجعي وظلامي في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية منذ القدم ويعيدون إنتاجه. وقد تكون معركة المثقفين الديمقراطيين والنقديين مع هذا التيار هي معركة الأيام القادمة والمستقبل كله لحماية الثورة من السقوط في أيدي هؤلاء المعادين للاستنارة والحداثة، للمواطنة والتقدم بما يتشبثون به من المظلم في تراثنا وتاريخنا، وبما لهم من قدرة علي التلاعب بالوعي الجماهيري عن طريق أسهل الأدوات وهو الدين. ولكن عنصرا جديدا دخل إلي المعادلة بعد سقوط رءوس النظام الفاسد وهو الوعي الحاد لدي منظمي الثورة وجمهورها بمسألة المواطنة وعلي المثقفين النقديين أن ينشئوا بناءهم الجديد علي هذا الوعي وهم يتحملون مسئولية الحرية الواسعة التي ستتوفر ولابد من الدفاع عنها بعد الانفلات من القيد.