«الجيش» هو كلمة السر لنجاح الثورة في مصر وتونس، حيث رفض في كلا البلدين ضرب الثورة الشعبية في الشوارع، بعد فشل الشرطة وجحافل قوات مكافحة الشغب التي أنفقت عليها المليارات في مصر وتونس في قمع ثورتي شعبي مصر وتونس. وإذا كان الجيش التونسي قد وقف علي الحياد رافضا حماية نظام بن علي بأي ثمن، فإن الجيش المصري اتخذ خطوة أبعد بحماية الثورة الشعبية حماية كاملة حين تعهد بعدم استخدام القوة تحت أي ظرف ضد الثورة، وجاءت التحية العسكرية للشهداء التي أداها اللواء محسن الفنجري علي شاشات التليفزيون بمثابة اعتراف بالثورة وإصرار علي حمايتها، وهو ما سوف تكشف عنه الأيام والأشهر القادمة في إطار قصة كيفية انهيار نظام حسني مبارك، وانهيار نظام زين العابدين بن علي في تونس. كتالوج الثورة وإذا كانت ثورة تونس قد فتحت أبواب كسر حاجز الخوف للشباب في مصر علي وجه الخصوص، في إطار امتداد شبكات التواصل الاجتماعي بين شباب البلدين علي وجه الخصوص والشباب العربي عموما، فإن نجاح الثورة في مصر بما لمصر من ثقل عربي وتأثيرها التاريخي وحتي الآن في العالم العربي بأكمله، ساهم في انتقال الموجة الثورية إلي كل البلدان العربية التي تعيش هذه الحالة بصور مختلفة، ما بين النزول إلي الشارع والتظاهر والاعتصام المستمر تحت نفس الشعار «الشعب يريد إسقاط النظام» وهو ما يحدث حتي الآن في اليمن وليبيا، إلي شعار «الشعب يريد إصلاح النظام»، كما يحدث في البحرين وسلطنة عمان بل والمملكة العربية السعودية علاوة علي الأردن والجزائر والمغرب والعراق أما بقية الدول فإن شعوبها تراقب ما يحدث في تلك البلدان لاستخلاص الدروس الملائمة، والاستعداد للتحرك في الوقت الملائم، حيث أصبحت الشعوب العربية مع مطلع عام 2011 في حالة ثورية لا تقبل استمرار الأوضاع التي كانت سائدة قبل هذا التاريخ بأي حال من الأحوال. وبالطبع لا يوجد «كتالوج» للثورة أو خطة يمكن تطبيقها في كل بلد، حيث تختلف الأوضاع جذرية وخاصة أن الأنظمة الحاكمة هي الأخري تستخلص الدروس الملائمة وتحاول عدم تكرار أخطاء الأنظمة التي انهارت في مصر وتونس. القذافي وسيناريو جهنم في ليبيا لم تتمكن الثورة الباسلة من تحقيق الانتصار بنفس الزمن التي حدثت في مصر وتونس، علي الرغم من أن ثوار ليبيا قدموا عددا ضخما من الشهداء في معارك حربية حقيقية يقدرون بالآلاف وليس بالمئات، في ظل عدم إمكانية التوصل إلي رقم محدد موثوق به. والمعضلة الأساسية التي تواجه الثورة الليبية هي انقسام الجيش الليبي الذي دخل بالفعل في المعركة، فجزء من هذا الجيش انضم إلي الثورة في الشرق، واستقبل الآلاف من الشبان للتدريب لكي يتحولوا بسرعة إلي مقاتلين، ونجح منهم متطوع في إسقاط طائرة ميج 230 بعد أسبوع واحد من تدريبه علي مدفع مضاد للطائرات. وفي الغرب فإن الجزء الأكبر من الجيش الليبي تحت قيادة القذافي وأولاده الثمانية الذين يديرون فروعا مختلفة للجيش وقوات الأمن الهائلة، علاوة علي القوة الضاربة من الطائرات المقاتلة، وبدأ هذا الجيش في التحرك لاستعادة المدن والمواقع التي سقطت أو انضمت إلي الثورة، وهو ما سيجعل إمكانية مواجهة الجيش الليبي بعضه البعض إمكانية قائمة بل إنها تحدث بالفعل علي الأرض. وقد يستطيع الجيش الذي يسيطر عليه القذافي حسم المعركة عسكريا اعتمادا أيضا علي جيش إضافي من المرتزقة الأفارقة ومستشارين من «فنزويلا» و«كوبا» ودول أخري من أوروبا الشرقية، ولكن الثمن سيكون فادحا داخل الجيش الليبي الذي لم ينجح أبدا في الانتصار في أي معركة خارجية منذ اندلاع ثورة الفاتح تحت قيادة القذافي، وخسر عددا هائلا من دباباته الحديثة في صحراء تشاد دون أن تنجح في القتال. وقد يحدث انقلاب عسكري من داخل الجيش ضد القذافي وينضم لبقية فرق الجيش في الشرق وبالطبع سيؤدي هذا السيناريو إلي توحيد الجيش الليبي، وإلي انتصار نهائي للثورة. ولا يقتصر الانقسام في ليبيا علي الجيش، وإنما امتد إلي القبائل التي تكون عصب التركيبة الاجتماعية للشعب الليبي، وبالتالي فإن للحرب الدائرة حاليا بعدا آخر خاصا بالتركيبة القبائلية المتحدة غالبا في مثل تلك الصراعات، عدا قبيلة القذافي «القذاذفة» الذين حدث داخلهم انشقاق، تم التعبير عنه في القمة بانضمام مستشار العقيد القذافي ومندوبه الدائم لدي مصر أحمد قذاف الدم إلي الثورة. وهناك أيضا الانقسام الحكومي في ظل وجود حكومة الثورة برئاسة وزيري الداخلية والعدل السابقين وانضمام قادة عسكريين وزعماء قبائل وشباب الثورة إلي تلك الحكومة التي تعتمد علي استقرار الأوضاع لصالحها في بنغازي والشرق عموما، إضافة إلي السيطرة علي عدد كبير من آبار النفط وقواعد ومطارات عسكرية ومدنية، وهو ما يمكن حكومة الشرق من الحصول علي إمدادات ومساعدات غذائية وطبية سواء عن طريق مصر أو البحر لتمكين الثورة من الاستمرار. القبلية تتحدي الثورة في اليمن وفي اليمن فإن الجيش لايزال تحت سيطرة الرئيس علي عبدالله صالح، ولكن الطبيعة الجغرافية الصعبة التي لا يمكن لأي جيش مواجهتها بسهولة، والولاءات القبلية تحول دون إمكانية تحقيق الجيش نصرا حاسما في أي معركة، إضافة إلي عودة «الحراك» اليمني الجنوبي إلي المطالبة بالانفصال بعد الوحدة «الفاشلة» التي جمعت الجنوب الليبرالي نسبيا إلي جانب الشمال القبائلي المتخلف، وعودة الحزب الاشتراكي والقوي التقدمية للعمل بقوة بعد سنوات من المطاردة والقهر. ويحاول عبدالله صالح استخدام دهائه السياسي للبقاء والاعتماد علي الانقسام بين الشمال والجنوب وشراء ولاءات القبائل إلي جانبه، والاستمرار في لعبة كسب الوقت. البعد العربي ومع استمرار هذا الوضع في اليمن واستمرار الحرب في ليبيا والبسالة منقطعة النظير للشعب الليبي الذي يخرج عقب كل صلاة بالدعاء للشهداء ثم الهجوم علي نظام القذافي حتي في مساجد محيطة بطرابلس، فإن البيئة العربية الرسمية لا تشكل بالطبع أي دعم للثورة الليبية خاصة مع عدم استقرار الأوضاع في مصر ورغبة المجلس العسكري في التركيز علي قضايا الداخل وإعادة المصريين من ليبيا بسلام وهي مشكلة إضافية للمتاعب المصرية، وهو نفس الحال في تونس التي تحولت إلي ساحة لاستقبال آلاف اللاجئين دون إمكانات ملائمة وإذا استثنينا التعاطف والتأييد والإعجاب العربي الشعبي بثوار ليبيا وبطولتهم منقطعة النظير في مواجهة القنابل والصواريخ وربما ما هو أبعد من ذلك في ظل تهديدات القذافي بتحويل ليبيا إلي جهنم حمراء، فإن موقف الجامعة العربية يستحق الإشادة حيث دخلت المؤسسة الإقليمية العربية لأول مرة في نزاع داخلي بالوقوف إلي جانب الشعوب، وضد الأنظمة بتعليق عضوية ليبيا في الجامعة، ومطالبة النظام الليبي بالتوقف الفوري عن ضرب الشعب الليبي، وهو أقصي موقف يمكن للجامعة أن تتخذه علي كل حال في ظل تمثيلها لأنظمة عربية بعضها أسوأ من النظام الليبي. الحماية الدولية وبعد أن تصاعدت في الأسابيع الأولي للثورة الليبية إمكانية اتخاذ موقف دولي قوي لحماية الثورة، وبعد إصدار مجلس الأمن القرار 1970 مستندا إلي الفصل السابع للميثاق، فإن إمكانية حصول الثورة علي حماية دولية تراجعت هذا الأسبوع بشدة. فالولاياتالمتحدة تراجعت عن تكرار سيناريو العراق الذي كلفها مليارات الدولارات وآلاف القتلي، علاوة علي فشلها في تقديم نموذج ديمقراطي قائم علي التدخل العسكري الخارجي، بل علي العكس ستخرج الولاياتالمتحدة وحليفاتها من العراق وهم مكرهين لتدميرهم هذا البلد، الذي عاني من ديكتاتورية نظام صدام حسين وجرائمه علي جميع المستويات الداخلية والخارجية، كما عاني من الاحتلال وتفجير الحروب الطائفية والتي أدت إلي مقتل أكثر من مليون عراقي طوال سنوات الاحتلال وحتي الآن، وحتي إعدام صدام حسين بعد إلقاء الجيش الأمريكي القبض عليه لم يحظ بتأييد أشد الذين يكرهون صدام حتي أنهم أعدموه في صباح عيد الأضحي. وفشلت جهود استصدار قرار جديد من مجلس الأمن لإقامة منطقة حظر جوي حتي فوق الشرق الليبي في ظل خلافات الدول الكبري، التي راح بعضها يبحث عن مصالحه مع النظام الليبي مثل إيطاليا وروسيا والصين، حتي بريطانيا التي كانت متحمسة لتدخل عسكري تراجعت في ظل ما نشر عن تخفيف ميزانيتها العسكرية وتسريح 11 ألف جندي بنهاية هذا العام. اتركوا العرب لمصيرهم وسارعت الصحف الغربية بكشف المواقف الرسمية لبلدانها، في ظل تصاعد التحذيرات بعدم تكرار ما حدث في العراق وأفغانستان وترك العرب لمصيرهم، وأشار عدد كبير من الكتاب إلي أن الحكومات الغربية هي أصلا صديقة للأنظمة العربية التي تتهاوي الآن، ولا يمكن أيضا إنقاذها. وكشفت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن خطة جديدة للإدارة الأمريكية تراعي الحفاظ علي حلفائها في الشرق الأوسط الذين هم علي استعداد للإصلاح، وأن الإدارة الأمريكية ستطبق تلك الاستراتيجية حتي لو كان علي حساب تأجيل عملية تطبيق مطالب شعوب المنطقة بالإصلاحات الديمقراطية. وتطالب الإدارة الأمريكية الحركات الاحتجاجية والثورية في العالم العربي خاصة البحرين والمغرب والأردن والسعودية وسلطنة عمان بالعمل مع الأنظمة الحاكمة التي تلقت نفس النصيحة لتطبيق الإصلاحات وليس إزالة الأنظمة من أساسها، مع تحذيرات من حالة الفوضي والحروب الأهلية كبديل لتلك الأنظمة. المستقبل من مصر وفي ظل تلك الأوضاع فإن العالم العربي أنظمة وشعوبا وحتي الدول الغربية والمؤسسات والهيئات الأقليمية والدولية تنظر إلي كيفية اجتياز مصر مرحلة الثورة إلي بناء الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، وهو ما سيشكل إلهاما للشعوب العربية وردا علي حقيقة تؤكدها إسرائيل والدول الغربية من أن إسرائيل هي واحة الديمقراطية في العالم العربي، وهي حقيقة تحتاج إلي رد عملي في العالم العربي الذي يتوق للحرية والديمقراطية وبدأ يدفع الشهداء ثمن لذلك.