لم يسقط النظام، ولا حتي رأس النظام، بل استبدل كلاهما بالمجلس العسكري الذي أقسم أعضاؤه علي الولاء للنظام ومازالوا يعملون حتي اليوم بهذا القسم، وفي ظل هذا القسم، فإنه من المنطقي ألا يستجيب المجلس العسكري لمطالب الثورة بإسقاط النظام، وما حدث، بفعل الضغط الثوري، هو مجرد انتقال رأس النظام من مقره بالقاهرة إلي مقره بشرم الشيخ، وبذلك سقط، أو أسقط المطلب الجوهري للثورة الذي تمثل في عبارة «الشعب يريد إسقاط النظام» التي رفعها ملايين المصريين وراح ضحيتها مئات الشهداء. وعندما أسقط هذا المطلب، فقد كان من المنطقي أن يمضي حراس النظام في افتعال نظام «جديد» علي هيئة حكومة يرأسها أحدهم وهو ما لم يطالب به الشعب، ثم تبع ذلك بتنفيذ أوامر رأس النظام، الذي لم يسقط، بتعديل بعض مواد الدستور «سيئ السمعة»، وهو ما لم يطالب به الشعب، ثم تحديد فترة زمنية مدتها ستة أشهر للانتقال إلي الدولة الجديدة المزعومة، وهو ما لم يطالب به الشعب. فما هي إذن المطالب الحقيقية للثورة التي حققها المجلس العسكري؟ قد يدعي البعض أنه قام بتقديم رموز الفساد إلي القضاء، وردا علي هذا الادعاء أقول: هل تقديم هؤلاء إلي القضاء يعد انقلابا علي النظام الذي أقسموا علي الولاء له؟ الجواب بالنفي، حيث إن هذا الإجراء يتسق تماما مع هذا الولاء ولا يعد خروجا عليه لأنه، من جهة من أقسموا علي الولاء للنظام، يعد تطهيرا لذلك النظام وتعديلا لمساره، وربما يخدم أيضا في التعتيم علي بعض مظاهر الفساد التي لابد أن تكون قد طالت صفوف الجيش في ظل النظام الذي لم يسقط. ونتساءل: لماذا الإصرار علي فترة الستة أشهر كمرحلة انتقالية تتم بعدها الانتخابات النيابية والرئاسية، وفرضها فرضا علي الشعب، علما بأن جميع ممثلي القوي السياسية وائتلاف شباب الثورة طالبوا بمد تلك الفترة إلي عام أو أكثر حتي يتمكنوا من تأسيس أحزاب جديدة تعبر عن مبادئ الثورة وتلبي مطالب الشعب وتستطيع خوض الانتخابات القادمة، هذا من جهة، ومن جهة أخري تطالب الأحزاب القائمة بمد تلك الفترة الزمنية لكي تتمكن من معالجة أزماتها الداخلية التي افتعل معظمها النظام، بالإضافة إلي استثمار الصراعات الأصيلة داخل قيادات الأحزاب لصالحه. بيد أن المجلس العسكري مازال يغض الطرف عن ذلك المطلب ويصر علي التمسك بفترة الستة أشهر، بل إنه يسعي إلي استثمار تلك الفترة، سواء بقصد أو بغير قصد، إلي إفساح الطريق أمام تيار الإخوان المسلمين لكي يظهر علي سطح المجتمع ظهورا شرعيا وذلك بإعلان موافقة القضاء علي إشهار حزب «الوسط»، فجأة ودون مقدمات، بعد أن ظل مرفوضا لمدة تزيد علي الخمسة عشر عاما، ويدعي حزب «الوسط» أنه ليس حزبا دينيا بينما يرأسه أحد أهم رموز الإخوان ويضم في عضويته الغالبية من الإخوان. وتبع هذا الحدث المفاجئ، وفي غفلة من الشعب، الإعلان عن تأسيس حزب إخواني هو حزب «العدالة والتنمية» الذي أعلن رئيسه أنه يقوم علي أسس الشريعة. وعقب ذلك توالت الانفراجة الإعلامية فظهرت شخصيات إخوانية علي الفضائيات لتتحدث بلغة جديدة تقترب من الخطاب العلماني الحداثي الليبرالي!! وتدعي السعي من أجل تحقيق مطالب الثورة والحفاظ عليها. وتتوالي المشاهد فيظهر الشيخ القرضاوي مصحوبا برموز إخوانية في ميدان التحرير وسط الثوار لكي يؤم صلاة الجمعة، ولا أحد يدري كيف دخل إلي مصر ولا كيف خرج منها! وبعد ذلك نفاجأ بوزير الأوقاف في الحكومة «الجديدة» وهو يدعو الشيخ حسان، الداعية الأصولي الذي يتمتع بشعبية كبيرة، لإلقاء خطبة الجمعة في أحد مساجد الدولة وأن يؤم الصلاة فيها، ذلك رغم اعتراض رئيس الوزراء في الحكومة «الديمقراطية الجديدة». ثم تعلن الصحف خبرا مفاده أن عمرو خالد، الداعية الأصولي المودرن، سيؤم صلاة الجمعة ويلقي الخطبة في أحد مساجد الدولة بأسيوط! ما الذي نستنتجه من جملة هذه المشاهد؟ هل يتجه بنا النظام، الذي لم يسقط، بيد حراسه نحو الحكم الإسلامي علي النمط التركي؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فهل نتوقع إلغاء المادة الثانية من الدستور عملا بالنظام التركي الذي يخلو دستوره من المادة الثانية وأمثالها؟ وهل سيحرص الجيش علي حماية الطبيعة المدنية «ولا أقول العلمانية» لنظام الدولة علي نمط الدور الذي يقوم به الجيش التركي في حماية العلمانية؟ الجواب بالنفي، طبعا، علي كل الأسئلة فالعلمانية عندنا مجرمة ومكفرة ومستبدلة بالفظ الذي يحتمل كل المعاني يمينا ويسارا، وأعني بذلك لفظ «الدولة المدنية» المنصوص عليه في الدستور والذي تتبناه جميع القوي السياسية بما فيها الإخوان. والسؤال الآن: هل ثمة قوي سياسية في مصر تصلح أن تكون ندا قويا لقوي الإخوان وذلك بأن تدعو صراحة دون مواربة إلي الدولة العلمانية باعتبارها البديل الصحي والمستقبلي لما يدعي «الدولة المدنية» التي ينص عليها الدستور من جهة، أو الدولة شبه الدينية، التي يسعي إلي تأسيسها الإخوان، من جهة أخري؟؟!! يظل هذا السؤال معلقا، ويبقي السؤال الأخير: هل قام الشعب المصري بثورته من أجل تحرير الإخوان من الحظر وتسليمهم حكم البلاد؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، وهو ما يبدو ظاهريا علي الأقل، فعلي أرواح الشهداء، الأموات منهم والأحياء، السلام، والتحية، كل التحية، لحراس النظام. أما في حالة الإجابة بالنفي، فستكون ثورة الشعب المصري مؤجلة إلي أجل غير مسمي، ولكنها عندما تندلع لن تكون سلمية!