أكاد أري الكلمات باهتة، بل ويا عجزها عن اللحاق بما ألم الفكر والقريحة، خاصة عندما يكون الخطب جللا. وأي خطب أجل من فقد أحد الأحباء الأعزاء علي النفس، ربطتنا صداقة وهم واحد مشترك وذكريات أعتز بها، إذ شكلت جزءا رائعا من حياتي لا يمكن نسيانه أو التغاضي عنه، فعلي الرغم من فارق العمر بيننا فإنني كنت استمد حماسي من حماسة الشباب لديه. تعرفت عليه للمرة الأولي أثناء إقامتي الطويلة في باريس منذ أواخر السبعينيات عندما خرج من مصر بعد اتفاقيات كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس السادات. كان يشارك وقتها في تأسيس مجلة اليسار العربي مع الراحلين ميشيل كامل ومحمود أمين العالم، كان في عقده الخامس، يشتعل ذهنه وقلبه وهجا ووطنية من فرط خوفه علي محبوبته، التي عشقها حتي النزع الأخير في حياته، وما سوف يحاق بها. ظلت مصر لديه ملك الفؤاد تسكنه رغم غيابه عنها، ما من مرة وعندما نلتقي لا يكون ما يشغله هو ما يحدث في مصر، ومستقبل مصر، وأمن مصر وتقدمها، ولعل آخر ما أفضاه وهو علي فراش الموت لزوج إحدي بناته الطبيب وهو يقوم بالكشف عليه ويطمئنه علي نتيجة العملية التي ستجري له : أنه لا يخشي الموت، ولكن كان يود فحسب أن يري بأم عينيه مصر وقد ارتاحت من مشكلاتها، وما يعوق تطورها . لم يكن يعبأ بشيء أكثر منها، حتي بنتيه وزوجته ظللن دائما في الصف الثاني من اهتماماته. والحق كن يتفهمن ذلك تماما، فتجشمت زوجته المحبة كل العبء عن طيب خاطر ورضا، لأنها كانت هي الأخري تعشق معشوقته، كما عشقها بنتاهما، كانت حالة فريدة، لأسرة فريدة شغلها الهم العام، الوطني المصري أكثر من مشاغل الحياة التي كانت تكابدها الأسرة في باريس وكأنها لم تكن. خلاص المصريين لعل البعض لا يعرف أنه كان أول دفعته في كلية الآداب جامعة فؤاد (القاهرة حاليا)، في عام 1943، وقد درس فيها الفلسفة، ويلتقي الطالب أديب بطالب آخر نابغ هو الأول علي دفعته أيضا في العام نفسه من جامعة فاروق (الإسكندرية حاليا)، هو المحلل النفسي الشهير بفرنسا الدكتور مصطفي صفوان، وللغرابة يتم اللقاء في قصر عابدين، عندما كانت العادة أن يستقبل الملك في قصره أوائل الدفعات من الجامعات المصرية، يتبادلان أطراف الحديث ويتعرف كلاهما علي الآخر كساخط، كل علي طريقته، علي ما يحدث في مصر، ومتمنيا خلاص المصريين من الحكم الفاسد. منذ اللحظة الأولي اختار الطالب ديمتري موقعه دون تردد أو تفكير في صفوف الجماهير العريضة، ومعبرا عن آمالها وأحلامها في الحياة الحرة الكريمة، مؤمنا بأن طليعة المثقفين لابد أن تتقدم الصفوف لتتحمل واجبها تجاه شعبها الطيب المسالم، وبدأ نضال أديب ديمتري في صفوف اليسار المصري يؤدي واجبه بحماس وقوة علي كل الجبهات: التنظيمية والمهنية والفكرية، لم يخل معترك إلا وترك عليه بصمته، فلا أحد من أبناء جيل الستينيات ينكر أهمية مقالاته عن التعليم التي خاض بها معركة مع وزراء التعليم آنذاك، وعلي الأخص كمال الدين حسين، حيث كان علي رأس الإضرابات النقابية والمطالبة بحقوق الأساتذة وتطوير التعليم، هذا وقد حلل أزمة التعليم حينها بكل علمية ومنهجية واقتدار من واقع ممارسته لمهنة التعليم في مقتبل حياته، حيث حاول أن يستفيد من خبرته العملية في إيجاد حلول جادة وجذرية لمشكلة التعليم المصري. وكم حملني الأصدقاء في كل مرة عند سفري والالتقاء به بضرورة أن يخرج هذه المقالات في كتاب يجمعها لأهميتها، من جهة ولأن الموضوعات التي طرحها في حينه، من جهة أخري مازال لها صدي وتتقاطع مع ما يحدث الآن وفيما نطلق عليه أزمة التعليم المصري اليوم. ربط الماضي بالحاضر وكان هذا هو العمل الذي كان يعكف عليه في أيامه الأخيرة بعد اقتناعه بوجاهة الموضوع، إلا أن المرض لم يوفر له المناخ المناسب لتنفيذ الفكرة، فكلما عاد إلي المنزل بعد أن يغادر المستشفي يبدأ في الكتابة، إذ كان يود ألا يكون الكتاب مجرد تجميع لمقالات قديمة نشرت في السابق، ولكن كان يريد أن يعيد تحليل الأوضاع في ضوء مستجدات الوضع الحالي، ومن ثم يكتب مقدمة جديدة تستطيع ربط الماضي بالحاضر. كان شديد الدقة ويريد أن يكون كل شيء في موقعه الصحيح، ولا يقبل بالحلول التقريبية أو بأي شيء خارج إطار المنهجية والعلم. في الشهور الأخيرة الماضية طلبت منه بناء علي اقتراح الصديق الناشر والمترجم أحمد الشيخ بأن يلتقي به مرة أسبوعيا لكي يسجل له ذكريات الأحداث المهمة التي شهدها وشارك فيها، حيث كنا لا نمل من الاستماع إلي ذكرياته التي كان يحكيها عن فترة الأربعينيات والتمهيد لثورة 1952، وذكرياته عن التنظيمات اليسارية والاشتراكية والشيوعية، بحيث كنا نود أن يدلو بدلوه فيها ويحكيها كما عاشها، لكنه رفض وبشدة، لسببين : الأول لأنه كان يري أن المهم الآن في أوضاع مصر الحالية، هو الكتابة عن الواقع الآني وليس الماضي، رغم أهمية التاريخ في نظره، وهو العنصر الثاني فقد كان يتصور أن التاريخ لا يمكن العبث به ولا يمكن أن يكتب اعتمادا علي ذاكرة تنسي حينا وتتذكر أحيانا، أو لا تتذكر، خاصة أنه بدأ ينسي بعض التواريخ المهمة رغم تذكره لكل الأحداث. متذكري التاريخ حاولت أن أقنعه بأهمية كتابة المذكرات وكيف أن ثمة منهجية حديثة اليوم في كتابة التاريخ تعتمد علي الذاكرة الشفوية، إلا أنه بمثاليته المعهودة وإيمانه بالدقة والأمانة العلمية لم يقتنع، كان يريد أن يكون كل شيء يسير وفقا للمناهج العلمية الصارمة، وليس تبعا لأهواء متذكري التاريخ. عودنا دائما ألا يساوم علي مبادئه وأفكاره وقناعاته ، وكان صلبا رغم ضعف جسده، وقويا بمنطقه وبسلوكه، لا يعرف التعصب، بل ويشمئز منه، ولم يكن يميز بين أفراد الوطن الواحد، وخرج من سجون النظام أصلب عودا وأكثر قناعة، بموقفه السياسي والعقائدي، آمن بالقضية الفلسطينية والعربية، وفضح كل الاتفاقات التي لم تحقق أي حل لقضية الشعب الفلسطيني، واستشرف ما تعانيه القضية اليوم من تأزم. كان دائما مع العدل الاجتماعي وحرية وكرامة البشر، وضد التطرف والعنصرية، داعيا دائما لعالم أفضل أكثر عقلانية وتحررا وإنسانية. ولعل نظرة إلي كتاباته ومقالاته السابقة في مجلات روزا ليوسف والكاتب والطليعة وغيرها تبين مدي عمق تحليلاته وعلميتها، كما أن النظر إلي كتاباته تبين لنا أيضا هذه العقلية الرصينة التي تمتع بها خاصة في كتابيه "الماركسية والدولة الصهيونية (الوجود والكيان) الذي أصدرته دار الطليعة في بيروت عام 1971، يكشف عن إمكانات التحليل لديه، وكذا آخر كتبه، فكتابه الضخم "دكتاتورية رأس المال" الذي أصدرته دار المدي بدمشق في عام 2002، يبين حرصه الشديد علي ألا يكتب إلا من مصادر موثوق فيها، وعلي قدرته الفائقة علي اقتفاء أثر الأنشطة الرأسمالية في شكلها الجديد النيوليبرالي المعولم و تغلغلها في شتي مستويات الأنشطة الإنسانية دون أن تترك مستوي ما من الحياة دون أن تخترقه، نجد في هذا الكتاب بروز براعة فقيدنا ومنهجيته وأصالة فكره. خالص العزاء صحيح تغلب عليه المرض، إلا أنه لم يستطع التغلب علي روح المقاومة التي تحملها أفكاره وكتاباته والتي تحمل بعضا من روحه وفكره. يخرج هذا المقال في الوقت الذي ستشيع فيه الجنازة في مدينة باريس من بعد ظهيرة هذا اليوم الأربعاء الموافق 12/1/ 2011 الساعة الثانية والنصف بتوقيت العاصمة الفرنسية، هذا وسيدفن في مقبرة باريس بضاحية إيفري سير سين، ولا أجد سوي أن أتوجه من هنا إلي زوجته الفاضلة ورفيقة عمره السيدة إيزيس، وابنتاه الدكتورة سحر والدكتورة داليا، وزوجيهما وأبنائهم بخالص العزاء، آملا لهم الصبر والسلوان وللفقيد الرحمة والمغفرة جزاء ما قدم لأمته وشعبه وبلاده...