ربما كان التعايش بين المسلمين والمسيحيين في سورية هو التعايش الوحيد الحقيقي في البلدان العربية الخالي من التكاذب والتدليس، ويكاد المسيحيون السوريون يتمتعون بحقوق المواطنة كاملة إلا قليلاً موروثاً من التاريخ أولاً ومن الأحداث التاريخية ثانياً، وخاصة أحداث (1860) في لبنان (بين الدروز والمسيحيين). في دمشق (محاولات المسلمين الانتقام والنهب والهيمنة)، كما أن هذا التعايش المحسوس والحقيقي موروث أيضاً من التاريخ، حيث أسسه معاوية بن أبي سفيان، عندما فتح ديوانه للمسيحيين من كتّاب وشعراء وعلماء ومفكرين وسياسيين، وصار التعايش والتفاهم والتعاون بين المسلمين والمسيحيين تقليداً مازال قائماً حتي الآن. لو عدنا للتاريخ القديم قليلاً، لاستعدنا حقيقة أن القبائل العربية كانت تسكن سورية قبل الإسلام (الغساسنة في الجنوب، وكلب في الوسط والصحراء، ومضر وبكر في الشمال والشرق، وكان المناذرة في جنوب العراق أيضاً) وقد شارك المسيحيون العرب (السوريون والعراقيون) بحروب الفتوحات الإسلامية، كما ساهموا بالسلطة بعد ذلك، وعلي الأخص أيام الدولة الأموية التي كانت تعتمد أساساً علي العرب، مسلمين كانوا أم مسيحيين، ولنتذكر الشاعر الأخطل الذي كان يدخل علي معاوية وصليبه علي صدره، ورجل الدين الشهير حنا الدمشقي (وهو من قبيلة تغلب) الذي كان فيلسوفاً وأثّرت أفكاره علي نظرية المعتزلة فيما بعد. كما نتذكر مساهمة المناذرة في حرب المسلمين ضد الفرس ومساهمة الغساسنة في حربهم ضد البيزنطيين وخاصة في معركة اليرموك التي شاركوا فيها بجسارة وتضحيات وشجاعة قدرها لهم عمر بن الخطاب وأعطاهم عديداً من المزايا. ساهم المسيحيون العرب فيما بعد في تطور الثقافة والعلوم والفلك والرياضيات والنجوم والطب وغيرها عند العرب، وعاشوا كمواطنيهم المسلمين دون تفرقة، وكانوا لهذه الأسباب يمارسون عباداتهم وتقاليدهم الدينية بحرية عزّ مثيلها في بلدان أخري، هذا في العصر الوسيط، أما في مطلع القرن التاسع عشر علي وجه التحديد فقد ساهموا في ولادة النهضة العربية، علي مختلف جوانبها، وحاولوا تحقيق الحداثة، ونشر مفاهيمها ومفاهيم الدولة الحديثة، وفتحوا المدارس العربية بمقابل المدارس التبشيرية، وأحيوا اللغة العربية، وألّفوا الموسوعات، وكانوا متحمسين للقضايا القومية ربما أكثر من المسلمين الذين كانت تشغلهم فكرة الأمة الإسلامية، والخلافة العثمانية، وفي العصر الحديث كانوا من رواد القومية العربية، وفي التاريخ المعاصر تعاملت البورجوازية السورية وحكوماتها مع المسيحيين كمواطنين كاملي المواطنة، فكان رئيس وزراء سورية مسيحيا بُعيد الاستقلال، وكذلك رئيس مجلس النواب، وحتي فيما بعد في سبعينيات القرن الماضي كان رئيس أركان الجيش السوري مسيحيا أيضاً، وتولي المسيحيون السوريون مناصب وزارية وعملوا محافظين ومديرين عامين وقادة عسكريين وأمنيين وفي مختلف مجالات الحياة، ولم يشكل كل هذا أي رد فعل سلبي لدي مسلمي سورية، ومازالت مسألة التعايش بديهية، ليس علي النطاق الرسمي، بل في التقاليد الشعبية والأحياء السكنية والحياة اليومية ومختلف المجالات، وفي هذا الإطار قررت الحكومة السورية بُعيد الاستقلال، أن تعطّل دوائر الدولة والمدارس ومختلف القطاعات في عيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلادية وعيد الفصح الشرقي وعيد الفصح الغربي، ولا تشمل العطلة العاملين المسيحيين فقط بل تشكل جميع العاملين في هذه القطاعات مسلمين كانوا أم مسيحيين، ويحتفل الناس جميعاً بهذه الأعياد بسلاسة وسهولة، وفي الوقت نفسه، يمكن للمسيحيين بناء الكنائس دون أي تعقيدات تماماً في شروط مشابهة لبناء المساجد، وممارسة تقاليدهم وعباداتهم بدرجة الحرية نفسها التي يمارس بها المسلمون، ولذلك كانت مواقفهم من الغزو الفرنجي (الصليبي) مشابهة لمواقف المسلمين، فقد ناضلوا ضد هؤلاء وحاربوهم، ومليئة كتب التاريخ الصليبية بالشك والريبة تجاه مسيحيي الشرق، وباتهامهم بأبشع التهم، وبأنهم كانوا معادين لهم وممالئين للمسلمين، وهي تهم لا ينكرها المسيحيون علي أي حال. لقد كان لنشوء حركات التطرف الإسلاموية تأثير سلبي علي هذا التعايش دون شك، ولكنه، ونظراً لعمق العلاقات وتاريخيتها ودخولها في ثقافة الناس مسلمين ومسيحيين، (نظراً لهذا) كان تأثير التطرف الإسلامي ضعيفاً وغير ملحوظ، وبقي المسلمون السوريون والمسيحيون السوريون محافظين علي التاريخ الطويل والمجيد من التعايش والعلاقات الأخوية بل وعلاقات المواطنة. وكل عام وأنتم بخير