لا أظن أن الدول العربية والإسلامية عانت خلال تاريخها الحديث من إشكالية مثلما عانت من إشكالية "الأقليات"، بل إن الحركة الاستعمارية الكبرى التي طرقت أبواب هذه الدول منذ نهاية القرن الثامن عشر تقريباً اتخذت من مشاكل الأقليات ذريعة قوية لاستعمار العالم الإسلامي والعربي. ويبدو أن تلك الثغرة القوية في جدار الأمن القومي لم تستطع الدول العربية أن تتعامل معها التعامل الكافي الذي يجنبها ويلات التدخل الخارجي، فمازالت قضايا الأقليات في الوطن العربي تمثل القشة التي من الممكن أن تقصم ظهر البعير في أي وقت إذا ما خرجت الدول المعنية عن النص وحاولت أن تستقل بقرارها الوطني. فنحن لا ننكر -كما يقول د./ إبراهيم علوش-: "أن هناك أقليات حقيقية في الوطن العربي ذات مطالب وقضايا عادلة، ولكن ما يجري اليوم لا يتعلق بحقوق أقليات، بل بمشروع حقيقي للتفكيك". هذا المشروع التفكيكي بدأت إرهاصاته في العراق والسودان وربما اليمن، ومازالت هناك دول أخرى تنتظر أن يصيبها الدور كما سنوضح لاحقاً.. وبعيداً عن كل عبارات الترضية التي تقال هنا أو هناك عن وحدة النسيج القطري للدول العربية وأن جميع السكان على درجة متساوية من المواطنة، إلا أن الأمن القومي العربي بات مهددًا أكثر من أي وقت مضى، والخريطة العربية التي تشكلت عقب رحيل الاستعمار من البلاد العربية باتت مهددة هي الأخرى بمزيد من الانقسام والتشظي. الأقليات في الوعي التاريخي لم يكن شأن الأقليات شأناً مستحدثاً في الشأن العام العربي، بل إن الدولة العثمانية استطاعت أن تعالج مسألة الأقليات فيما عرف حينها ب"نظام الملل" والتي منحت بموجبه الأقليات الدينية في ربوع السلطنة الحق في إدارة شئونها الدينية وخاصة "النصارى" منهم والذين توزعوا بين عدد من المذاهب كالأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية.. وذلك النظام أعطى لكل طائفة حق إدارة شؤونها الدينية بنفسها، وبناء مؤسساتها التربوية والثقافية والاجتماعية، وإدارة أوقافها عبر مجلس ملي لكل منها دون تدخل مباشر من جانب السلطنة، لكن نظام الملل العثماني الذي شكل نموذجًا متطورًا للتعايش بين المذاهب والطوائف والجماعات الدينية والفرق الصوفية وغيرها في مرحلة القوة التي امتدت طوال القرنين السادس والسابع عشر، تحول إلى عبء عليها في مرحلة الضعف. وعلى حسب تعبير محمد والى فإن: "نظام الملل الذي سار سيرًا حسنًا عبر التاريخ الإسلامي، قد تحول في الطور الأخير للدولة العثمانية بفضل نظام الامتيازات الأجنبية، وبفعل التدخل الأوروبي المتنامي إلى طليعة الغزو المنظم لدار الإسلام؛ فقد أتاحت الامتيازات الأجنبية سبل اختراق أوروبي للبنية العثمانية، وذلك بتحويلها نظام الملل من نظام مثالي للتعددية والحريات الدينية والسياسية في عصر عرف بحدة الصراعات والاضطهادات الدينية إلى نظام ساهم بفضل تسامحه وخصوصيته إلى تسهيل ربط هذه الملل بالدول الأوروبية؛ فقد تحول ولاء أعداد كبيرة من المسيحيين العثمانيين إلى أوروبا نتيجة المنافع التي كانوا يحصلون عليها عن طريق القنصليات الأوروبية والارتباطات الكنسية. ومع الوقت غير هؤلاء هويتهم العثمانية ليلتحقوا بالهوية الأوروبية التي يؤكدها قانون الوصاية ونظام الامتيازات الأجنبية". إن الامتيازات التي منحت لفرنسا -في البداية- قد اتسع نطاقها ليشمل دولاً أوروبية أخرى مثل النمسا وألمانيا وروسيا: كل هذه الدول ادّعت حقوقًا لها في حماية المسيحيين الشرقيين؛ فقد ارتبطت مصالح المسيحيين الكاثوليك بفرنسا والنمسا، ومصالح الروم الأرثوذكس بروسيا القيصرية. الأقليات في الخبرة العربية الحديثة رغم أن العالم العربي يكاد يكون متماسكاً لغوياً وثقافياً، إلا أنه يعاني في الوقت ذاته من فسيفساء إثينية ودينية سببت له ثقوباً واضحة في جدار الأمن القومي، نفذ منها التدخل الخارجي على نحو سافر، فلا يكاد يخلو بلد عربي من أقليات دينية أو لغوية أو عرقية على النحو التالي: * العراق: المسيحيون غير العرب 3% الصابئة المندائيون أقل من 1% الأكراد 18% الإيرانيون 1.5% التركمان 2% إضافة إلى الشيعة والذين يصلون إلى حوالي 50% كما تشير بعض المصادر. * سورية: العلويون 10% الدروز 4% الإسماعيليون 7% المسيحيون غير العرب 3% الأكراد 4% الترك 1% الشركس 1%، وقد استطاعت الأقلية العلوية الاستئثار بالحكم لعقود طويلة شارفت على الأربعين عاماً. * الأردن: المسيحيون 1.5 % الشركس 1.6 % الشيشان أقلية ضئيلة الأرمن 0.5% الأكراد 0.3% التركمان 0.12% * لبنان: الدروز.6% العلويون أقل من 1% المسيحيون العرب 33% المسيحيون غير العرب 5% الأكراد 1% الترك أقل من 1% * مصر: النوبيون 2% البجا (ومنهم البشارية) أقل من 0.5% البربر )السيويون) أقل من 0.5% أفارقة آخرون وغجر2% الأقباط 5% * السودان: البجا 6% الهوسا 4% النوبيون 3% الفور 2% شعوب صحراوية أخرى 4 % القبائل النيلية وشبه النيلية 16% البانتو 2 % الوثنيون (كلهم من غير العرب) 25% المسيحيون 5% * الجزائر: المسيحيون العرب أقل من 1% البربر السنة 26% الأباضيون (المزابيون، وهم من البربر) أقل من 1% الطوارق (بربر سنة من البدو الرّحّل) أقل 0.5% المسيحيون البربر (خصوصاً في جبال القبائل). أقل من 1% * المغرب: البربر 36% الطوارق (بربر من البدو الرُّحّل. أقل من 1% اليهود 0.2 % الأوروبيون (الأغلبية مسيحيون) 1% الأفارقة (الزنج) أقل من 1% * موريتانيا: المولّدون (عرب وبربر) 40 % الأفارقة الزنج 20 % البربر (بمن فيهم الطوارق) 2.5% وبحسب التفصيل السابق فإنه لا يكاد يخلو بلد عربي من أقليات أياً كان تصنيفها، وللأسف فقد تحولت الأقليات في اللغة السياسية العربية المعاصرة من ظاهرة تاريخية اجتماعية إلى لعنة أبدية، وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية، ولا التخلص منها، وأصبح الخوف من تفجُّراتها المحتملة عقبة الوصول إلى حل لمشاكلها العالقة، فهي فتنة نائمة والحديث فيها بأي شكل جاء لا يمكن أن يكون إلا إيقاظًا لها وإطلاقًا لبراكينها الكامنة والنشطة في الوقت ذاته. تأثير الأقليات على الأمن القومي العربي تعتبر مسألة الأقليات في الوقت الراهن من أقوى الأدوات التي تستخدمها الدول الكبرى وخاصة أمريكا، لابتزاز الدول العربية أو التدخل السافر في شأنها من خلال ورقة "حقوق الإنسان". فحقوق الإنسان قد لا تنجو من التسييس أو من الاستهداف، كذلك لا تعدم أن يكون في داخلها من يوظفها لغايات شخصية مالية أو سياسية أو غير ذلك.. وحتى تتضح الصورة أكثر فأكثر علينا أن نتذكر بعض الدول العربية التي تمزقت أو تقف على شفا التمزيق بفعل عامل الأقليات. ففي العراق. لم يتمكن المحتل الأمريكي من بسط نفوذه العسكري والسياسي على البلاد إلا من خلال اللعب على ورقة الأقليات وخاصة الورقة الشيعية والكردية.. حتى بات العراق اليوم موزعاً بين ثلاث دويلات.. واحدة في الشمال للأكراد، وأخرى في الجنوب للشيعة، وثالثة على استحياء في الوسط لأهل السنة. أما السودان فقد خاض حروباً طويلة ومريرة ضد حركة التمرد في الجنوب، وهى حركة موجهة ضد الوجود العربي المسلم في الشمال، وضد الهوية العربية للدولة السودانية، وللأسف فقد خاضت الدولة السودانية تلك الحرب بصدر عارٍ، وبدون مساعدة جدية من النظام الرسمي العربي، حتى لم يجد النظام السوداني مفرًّا من الإذعان للمطالب الجنوبية بحقهم في تقرير الانفصال عن الشمال عبر استفتاء بتنا على بعد خطوات منه، والذي من المتوقع أن تفقد فيه الأمة العربية بوابتها الجنوبية للقارة الإفريقية!!! أما في مصر والتي يشكل فيها الأقباط حوالي 5% على أكثر تقدير فقد شهدت السنوات الأخيرة نمواً مستفزاً للمطالب القبطية، والتي تعدت كل الخطوط الحمراء التي كانت موضوعة من قبل، رغم أن أقباط مصر يحيون حياة كريمة مكنتهم من الاستحواذ على حوالي 60% من الاقتصاد المصري، إضافة إلى جملة من الامتيازات لا تتمتع بها أقلية في العالم، إلا أن كل هذا لم يمنعهم من الاستقواء الصريح بالخارج والمناداة في أكثر من مناسبة، إضافة إلى ما يقوم به أقباط المهجر من حملة دعائية واسعة النطاق ضد مصر. وفى الجزائر شكل البربر لوقت من الزمن تهديداً للحكومة المركزية في "الجزائر" العاصمة، من خلال المطالبة باعتماد اللغة الأمازيغية كلغة رسمية في البلاد بجوار العربية، وهى المطالب التي وجدت دعماً كبيراً من تيار "الفرنسة" في الأوساط الثقافية الجزائرية. ومن خلال تلك الأمثلة يتضح لنا أن مسألة الأقليات في الوطن العربي بمثابة برميل البارود الذي قد ينفجر في أي لحظة مخلّفاً وراءه انتكاسات وحدوية ومجتمعية. أين يكمن الحل؟ لعلي هنا لن أضيف جديداً كما كتب وحرر في هذه النقطة تحديداً، وبعيداً عن البرامج الشعاراتية الجوفاء التي يرفعها أصحاب المصالح الممولون خارجياً أقول: لا يكاد يختلف اثنان في ضرورة إزالة الحيف والظلم عن الأقليات، درءاً لأي تدخل خارجي، كما يجب أن تعمل الدول القطرية العربية على تأكيد الهوية الثقافية العربية والإسلامية الجامعة لجميع أطياف المشهد السكاني على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وفتح المجالات للأقليات للمشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كبوابة أساسية للقضاء على العنصرية والتمييز وكره الأقليات للأغلبية. وبرغم كل ما سبق إلا أن الحقيقة التي لابد وأن يعيها الجميع أن مسألة الأقليات ستظل ترتبط بالوضع الداخلي للدول العربية ومدى استعدادها لمقاومة التدخل والضغط الخارجي، ومدى قدرتها على الاستقلال بقرارها والحفاظ على محددات الهوية العربية الإسلامية. فالدولة العثمانية – كما أسلفنا – أعطت للأقليات ما لم تستطع أي دولة عربية أن تمنحه لأقلية داخل حدودها اليوم، والذي وصل وقتها إلى ما يعرف بنظام "الحكم الذاتي"، ولكنها كانت الثغرة التي ولج منها الاستعمار الغربي إلى داخل الدولة العثمانية بحجة حماية "الأقليات" والتي ارتبطت بدورها بتلك الدول ثقافياً واقتصادياً.. فمنح الأقليات المزيد من الامتيازات اليوم لن يمنع التفكيك إذا لم تعمل الدول العربية على معالجة أوجه الضعف في بنيتها السياسية والاجتماعية المصدر: الاسلام اليوم