سوريا ولبنان بلدان عربيان مستقلان منذ النصف الثاني من اربعينيات القرن العشرين. بينهما اكثر مما بين اي بلدين عربيين آخرين من علاقة. العبور بينهما من الواحد الي الاخر لا يحتاج لاكثر من البطاقة الشخصية. اعتماد كل منهما علي الاخر وثيق وواسع النطاق اكثر من اي بلدين عربيين آخرين. التجاور بينهما اوثق واوضح من التجاور بين اي بلدين عربيين آخرين. بل ان هناك كثيرين من السوريين واللبنانيين من لا يعترف بهذا التقسيم بينهما ، فهو في الاصل تقسيم صنعه الاستعمار (الفرنسي والبريطاني) ويصرون بقوة وايمان علي انهما بلد واحد بالامتداد الجغرافي والتاريخي والثقافي. التقسيم مرفوض من اساسه باعتبار ان سورياولبنان بلد واحد بتسميتين و"سوريا الكبري" تضم كليهما في وحدة واحدة. مع ذلك فان بين سورياولبنان من الخلافات والصدامات ما يفوق مابين اي بلدين عربيين آخرين. بل ان هذه الخلافات والصدامات تضاعفت في السنوات الاخيرة بصورة تنذر بالخطر. عندما نشبت الحرب الاهلية في لبنان فيما بعد احداث عام 1975 لم يكن هناك من مفر من تدخل سوريا. وعندما تدخلت سوريا كان تدخلها الي الجانب الذي لا يحبذ الدور السوري في حياة لبنان السياسية وضد الجانب الذي يؤمن بهذا الدور ويدعو اليه. انما كان وجود الطرف الفلسطيني في الصراع سببا اساسيا في وقوف الطرف السوري في السبعينيات من القرن الماضي مع السلطة المارونية وليس مع المعارضة السنية. في السنوات الاخيرة اصبحت الامور معكوسة تماما بسبب تدخل الغرب – أمريكا بوجه خاص – وبدا انه لم يعد باستطاعة سوريا ان تتدخل علنيا بقوتها العسكرية او حتي السياسية في الشان اللبناني. اصبحت سوريا مشغولة بالدفاع عن استقلالها ووحدتها ضد التدخل الأمريكي ، انما لا تستطيع سوريا باي حال ان تنسي لبنان ودوره واهميته الاستراتيجية لها ولاستقلالها ووحدتها. الامر كله يدعو للدهشة خاصة في التطورات الاخيرة التي أسلمت سوريا لحرب يسلحها وينفق عليها التدخل السعودي-الأمريكي والتي امكنها ان تستمر حتي الان لما يقرب من ثلاث سنوات ولم يكن منتظرا في البداية ان تستمر الا لاشهر تطول او تقصر. وفي ضوء – او بالاحري في ظلمة – احداث سوريا ما كان يمكن للبنان ان ينأي بنفسه عن الاحداث السورية بعنفها واهتزازها. الآن وسوريا توشك ان تنتصر علي عصابات التدخل الخارجي التي تنفق عليها السعودية وتسلحها أمريكا ودول اوروبا ولكنها لا تستطيع ان تحسم دورها بانتظار نتائج الاتصالات الجديدة بين أمريكاوايران. فايران هي السند الرئيسي والقوي لسوريا ، ومعرفة ما اذا كانت ايران ستبقي قادرة علي اداء دور المساند القوي والمستمر لسوريا أمر يتوقف علي نتيجة الاتصالات الأمريكية-الايرانية وتأثيراتها علي العلاقات الايرانية السورية. ويمكن ان نضيف هنا انه بالتالي فان لبنان ينتظر هذه الاتصالات ونتائجها ليعرف اذا كانت سوريا ستبقي القوة الرئيسية وراءه. الامر الذي يدعو للدهشة في هذه التطورات والتعقيدات التي تشمل سورياولبنان هو ان الوضع السوري اصبحت له انعكاساته الخطيرة علي لبنان. وليس ذلك مقتصرا علي نتائج الزحف السوري من جانب الفارين من أحداث سوريا الي لبنان شأن غيره من البلدان التي شملها هذا الزحف ومنها الاردن وتركيا ومصر ، انما يشمل التعقيد الجديد التركيبة السياسية الداخلية في لبنان حيث يمكن اعتبار ان السلطة التي تمارس الحكم في لبنان – حتي وهي شبه معطلة منذ شهور طويلة بسبب اختيار رئيس جديد للوزراء لتأليف حكومة جديدة ولكنه لم يتمكن حتي الان من تحقيق هذه المهمة بسبب انقسام لبنان الي كتلتين سياسيتين رئيسيتين : كتلة في صف سوريا وكتلة مضادة لسوريا. وقد أدي هذا الانقسام الي حدوث صدامات مسلحة بين كتلتين احداهما الكتلة المناصرة لسوريا والاخري هي الكتلة المناهضة لسوريا. حدثت هذه الصدامات ولا تزال تحدث -حتي كتابة هذه السطور- في المنطقة من لبنان التي تقع علي الحدود الشمالية للبنان مع سوريا وتشمل مدينة طرابلس ثاني كبري المدن اللبنانية بعد العاصمة بيروت. ولا يزال الجيش البناني يحاول ان يؤدي الدور الرئيسي في الفصل بين القوي المتحاربة مع استمرار الخشية من امتداد الصدام الي مناطق لبنانية أخري. وفي هذا الوضع البالغ التعقيد اصبح الصراع ثلاثيا لانه يشمل الجيش اللبناني الي جانب الفريقين المتصارعين بشأن سوريا. وأصبح الصراع أكثر تأثيرا علي الوضع اللبناني بعد ظهور شبهات او اتهامات بان الطرف السوري يلعب دورا في الصراع اللبناني-اللبناني. وهو اتهام صاحب من البداية تدخل حزب الله اللبناني في الصراع السوري الي جانب النظام السوري. ومن الواضح ان هذا التدخل من جانب حزب الله اللبناني لعب دورا لا يمكن تجاهله في نقل القوات السورية الي حالة من التفوق لم تكن واضحة في الاشهر السابقة علي دور حزب الله.او يمكن القول علي الاقل ان تدخل حزب الله ادي دورا ايجابيا في صف قوات النظام السوري الحاكم يمكن ان يسهم في تحسين الموقف السوري امام التحول الأمريكي الذي يسعي الي تحسين العلاقات مع ايران. تحريض ضد الجيش تقول صحيفة "السفير" اللبنانية ذات التوجه القومي العربي ان ما شهدته طرابلس اخيرا من تطورات ميدانية بدا انه "تجاوز كل قدرات الدولة (اللبنانية) من رأس الهرم الي قاعدته ، فلا أحد من القيادات السياسية والدينية والامنية يستطيع ان يكبح جماح بعض مسئولي المجموعات المسلحة عن الاستمرار في اشهار السلاح وصولا الي حدود مواجهة الجيش اللبناني والتصدي له بشكل مباشر لمنعه من الانتشار. .. وما زاد الطين بلة (تضيف"السفير") استمرار بعض القيادات في طرابلس بالوقوف علي خاطر عدد من المجموعات المسلحة التي خرجت عن سيطرة الجميع بعد ان باتت لها اجندتها وتمويلها الخاصين. " وفي رأي الصحيفة اللبنانية ذاتها ان "التحريض السياسي المستمر ضد الجيش بلغ ذروته ". ولابد من الاشارة هنا الي ان شخصية طرابلسية كانت تشغل حتي وقت قريب منصب رئيس اركان الجيش اللبناني وجد ان من الملائم في هذا الوقت ان يبدو في الصورة زعيما طرابلسيا يناهض سوريا وانصارها في طرابلس فقد أعلن اللواء اشرف ريفي ان الميليشيا التي يتزعمها تخوض معركة "توحيد بندقية اهل السنة" في طرابلس (…) فقراء ومليارديرات ولاشك ان انضمام اللواء ريفي الي ميليشيات طرابلس يضيف مزيدا من التعقيد الي موقف طرابلس في وقت يحاول فيه الجيش اللبناني حسم الموقف في المدينة. غير ان ثمة تعقيدا اشد وطأة لابد من أخذه في الاعتبار. تقول صحيفة "الاخبار" اللبنانية ذات الاتجاه اليساري – في مقال كتبه جان عزيز – "صار القتل والاقتتال في طرابلس خبر متفرقات في الحياة السياسية واللغة الصحافية في لبنان. لم يعد ثمة من يسأل عن الاسباب. اسماء الضحايا تحولت الي ارقام تماما كما لمعة ترقيم الجولات انها السابعة عشرة… ". وأهم مايقوله الكاتب في هذا الصدد ان سكيزوفرانيا طرابلس (اي انقسام شخصيتها) يتمثل في وجود "فقراء ينتخبون مليارديرات". انه يتساءل "كيف لاسلاميين او طرابلسيين شاميين او فقراء معدمين ان ينتخبوا ممثلين عنهم من دعاة العلمانية واللبنانية ومن اصحاب المليارات؟ حتي تدرك الجواب قد تظل سكيزوفرانيا طرابلس مستمرة وكذلك حروبها." ان الموقف الراهن في مدينة طرابلس يلخص بقسوة الموقف في لبنان ككل. والمصيبة الكبري انه يهدد بتحويل لبنان ليس الي طرابلس انما الي سوريا. وكأن هذا هو مصير طرابلس يتحول الي مصير لبنان ومصير لبنان يتحول الي مصير سوريا. وكل هذا ناتج عن حقيقة مزدوجة هي ان لبنان بحكم علاقته بسوريا وبحكم نظامه الاكثر ديمقراطية في الوطن العربي محكوم عليه بان يتحول الي ضحية لانتمائه العربي والديمقراطي (…)