بدأ الهدوء النسبي يعود إلي مدينة طرابلس، العاصمة الثانية للبنان، بعد الاشتباكات الطائفية التي شهدتها بين العلويين و السنة منذ ثاني أيام عيد الفطر، والتي استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة وذلك علي خلفية التوتر المرتبط بالصراع الدائر في سوريا. ووصل عدد القتلي حتي الآن نحو 16 قتيلاً من بينهم شيخ سني هو خالد البرادعي. صراع سني علوي وأكدت مصادر أمنية أن مسلحين قاموا بإشعال النيران في سبعة محلات لعلويين في المنطقة السنية مما أدي إلي إصابة نحو 41 شخصاً من بينهم جنود. ويستمر التوتر في منطقة جبل محسن العلوية المناصرة للنظام السوري ومنطقة حي باب التبانة وحي القبة السنيين. وشهدت هاتان المنطقتان صراعات طاحنة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كما شهدت موجات من العنف المتكرر منذ بدء الثورة السورية. وكانت آخر موجة للعنف قد تسببت في مقتل نحو خمسة عشر شخصاً في شهر يونيه الماضي. يذكر أن الصراع في طرابلس يعبر عن التأثير الكبير للأزمة السورية علي الداخل اللبناني خاصة مع وجود مؤيدين لنظام الأسد مثل حزب الله اللبناني، و معارضين له مثل تيار المستقبل. وشهدت العاصمة بيروت عمليات اختطاف لرعايا سوريين علي يد أفراد من عشيرة المقداد الشيعية كرد انتقامي لاختطاف أحد ابنائها المؤيدين لنظام الأسد، حسان المقداد، علي أيدي معارضين سوريين. وأثارت الأحداث في طرابلس قلقا كبيرا داخل لبنان، وصرح الرئيس اللبناني، ميشال سليمان، بأن بلاده لن تظل رهينة لسوريا، و قال "عندما تضر أي علاقة بطرف خارجي بمصلحة لبنان ننهي تلك العلاقة. وحين تصبح العلاقات في مصلحة لبنان نعيدها". كما عقد رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي اجتماعاً طارئاً لمناقشة أحداث العنف شارك فيه مفتي طرابلس وعدد من الوزراء والنواب والقادة الأمنيين وفعاليات باب التبانة ومفتي طرابلس الشيخ مالك الشعار. ونتج عن هذا الاجتماع اتفاق حول وقف إطلاق النار و السماح للجيش بمسح المنطقة بالكامل. وغاب عن الاجتماع رفعت عيد، وهو أحد القادة العلويين، وأشار إلي أنه " غير معني بكل هذه الاجتماعات التي تحصل وغير ملزم بما يصدر عنها، إنما هو يلتزم فقط بقرار قائد الجيش اللبناني العماد قهوجي لأن الجيش هو الضمانة وهو صمام الأمان". قلق داخلي وأممي كما أعربت منظمة الأممالمتحدة عن قلقها من أن يتحول الصراع في طرابلس إلي حرب أهلية جديدة، ووصف المسئول السياسي في الأممالمتحدة جيفري فلتمان الوضع بأنه غير مستقر خاصة مع ارتباطه بتدهور الأوضاع في سوريا. وأضاف في إطار انتقاده لعمليات تهريب السلاح من الأردن إلي سوريا في انتهاك لقرارات الأممالمتحدة "إن الحاجة لاستمرار الدعم الدولي للحكومة والجيش اللبناني تزداد أهمية". وعلي الرغم من القلق الأممي فإن اللواء عباس إبراهيم، المدير العام للأمن، أكد أن أحداث العنف في طرابلس هي موجة طارئة و لن تجر البلاد إلي حرب أهلية. وأشار إلي أن الأمن العام يعمل تحت سقف القانون ووفق ما يمليه الضمير. ونفي عباس إبراهيم أن تكون الخلايا التي تتسرب من سوريا لها أثر في جر البلاد إلي حرب أهلية مؤكداً أن الحرب الأهلية لا تقوم بسبب أزمة في منطقة خارجية و إنما تقوم إذا ما توفرت إرادة سياسية و شعبية للسير في هذا الاتجاه. وأضاف "التطرّف هو الدافع الأساسي لكل ما يحصل وهو ليس بريئاً ونحن نعمل جاهدين من أجل عدم إنتقال كرة النار الطرابلسية إلي أية منطقة أخري ونحن نرصد المناطق الحساسة التي يمكن أن تتأثر بما يجري لمنع حصول أي رد فعل فيها، فأنا لن اتقاعس وخطوط الاتصال مفتوحة مع الجميع من أجل ذلك وبالتنسيق مع مختلف المؤسسات الأمنية والعسكرية". كما وصف اللواء عباس إبراهيم ما يتردد حول وجود مراكز تدريب للجيش السوري الحر داخل لبنان وحول تهريب السلاح إليها بأنه تضخيم للأحداث لإثارة القلق والبلبلة. ردود أفعال وتباينت ردود الأفعال الداخلية حول أحداث طرابلس بين القلق الشديد وبين عدم الاستغراب من تأثير الأزمة السورية علي الداخل اللبناني. وأشار النائب محمد كبارة، عضو كتلة المستقبل، إلي أن النظام السوري له مصلحة في إرباك الوضع الأمني في لبنان و أكد أن ما يحدث هو جزء من المخطط الذي كان قد كشفه النائب والوزير السابق ميشال سماحة باستهداف الشمال. واتهم كبارة رفعت عيد، رئيس الحزب العربي الديمقراطي، بالتورط في المخطط السوري، و أضاف "أساساً رفعت عيد يتلقي أوامره من النظامين السوري والإيراني وهو اعترف بذلك بنفسه. وهذه المسألة يعرفها القاصي والداني". من ناحية أخري، أكد رئيس حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، أن "الأزمة السورية لن تنتقل إلي لبنان ولا تخوّف من اندلاع حرب أهلية مجدداً بالرغم من أن بعض حلفاء النظام السوري في لبنان وعلي رأسهم "حزب الله"، يحاولون إثارة بعض المشاكل في الداخل اللبناني وفي أكثر من منطقة لتخفيف الضغط الذي يعانيه هذا النظام، وقد أثبتت قضية توقيف النائب والوزير السابق ميشال سماحة بأن نظام الأسد كان يحاول مؤخراً إثارة فتنة في لبنان بين العلويين والسنّة من جهة وبين المسيحيين والسنّة من جهة أخري". دور حزب الله من جانبه، رأي الشيخ مالك الشعار، مفتي طرابلس، أن أحداث طرابلس ليست قضية محلية أو طائفية و إنما هي انفجار للاحتقان السياسي الموجود في لبنان بصورة عامة والذي يتعاظم ويحتدم نتيجة الأحداث في سوريا. وحذر مفتي طرابلس مما وصفه بأنه ظاهرة انتشار السلاح في كل لبنان والذي يؤدي إلي العيش خارج إطار هيبة الدولة. وقال إن كل سلاح خارج الجنوب هو سلاح موجه ضد لبنان واللبنانيين، وانه لا يجوز للمقاومة أن تتبني أي قطعة سلاح واحدة موجودة خارج دائرة المواجهة مع العدو الإسرائيلي. وألمح مفتي طرابلس إلي الدور الذي يقوم به حزب الله الذي سعي لتبرئة نفسه من أحداث طرابلس في الوقت الذي يبدي فيه استعداده للقتال من أجل نصرة بلاد أخري كسوريا. وأكد أن الحل يكمن في إعطاء الجيش اللبناني كل الصلاحيات للحفاظ علي أمن البلاد كما حدث عندما قام باستئصال تنظيم "فتح الإسلام" من نهر البارد. وعلي الرغم من أن أزمة طرابلس تبدو كامتداد للأزمة السورية علي الأراضي اللبنانية، إلا أنها في الواقع أزمة لبنانية بامتياز حيث تعكس الاحتقان السياسي الداخلي منذ تولي ميقاتي رئاسة الحكومة. فتولي ميقاتي الذي كان مقدمة لهيمنة المعارضة في وجه قوي الأغلبية، أصبح اليوم تحت اختبار جميع اللبنانيين خاصة منذ أن أعلن تحالف الثامن من آذار دعمه لنظام الأسد، و بعد أن تعري خطاب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، من تشدقه الدائم بالمقاومة وقيامه بنصرة ثورات الربيع العربي في مصر و تونس و ليبيا و اليمن وامتناعه عن رؤية شرعيتها في دول الممانعة و من ثم نصرته الكاملة لبشار الأسد. وكان نصر الله قد ألقي خطاباً بمناسبة "عيد المقاومة والتحرير" في ذكري انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000 حسب ضده حيث أوضح الخطاب التناقض الشديد في موقف حزب الله من الثورات العربية، كما أوضح مناصرته لنظام الأسد ودعوته اللبنانيين لعدم التدخل فيما يحدث علي الأراضي السورية. وقال نصر الله في خطابه "سوريا في لبنان قدمت الكثير. سوريا منعت التقسيم. سوريا ساعدت بقوة في الحفاظ علي وحدة لبنان. سوريا أوقفت الحرب الأهلية الدموية التي كادت تقضي علي لبنان وعلي شعب لبنان. سوريا ساعدت لبنان ودعمت مقاومتها فكان التحرير عام 1985 في الجبل وبيروت، صيدا وصور والبقاع الغربي والنبطية، وصولاً إلي 25 مايو عام 2000 وتحرير كامل الشريط الحدودي باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وصولاً إلي الصمود والانتصار المعجزة في حرب يوليو. لا يمكن أن ننسي كيف احتضنت سوريا لبنان ومقاومة لبنان". أزمة طرابلس هي بالتأكيد امتداد لأزمة تشكيل الحكومة اللبنانية الأخيرة والتي شهدت شهورا من التعطيل والفراغ السياسي والسجال وتبادل الاتهامات بين قوة الأغلبية و قوي المعارضة التي مارست ضغوطا شديدية عن طريق استقالة وزرائها مما تسبب في سقوط حكومة الحريري و تشكيل حكومة ميقاتي. ومثلت تلك الحقبة نجاح حزب الله في أن يكون المحرك الرئيسي للسياسة الداخلية اللبنانية عن طريق استراتيجياته التي لجأ إليها منذ دوره في حرب إسرائيل المفتوحة علي لبنان، و لسياساته ضد حكومة فؤاد السنيورة عامي 2006 و 2007 عندما اتبع أيضاً نهج تعطيل الحكومة بعد انسحاب خمسة وزراء شيعة وسادس مسيحي من الحكومة وقتها علي خلفية خلاف حول إقرار نظام المحكمة الدولية، و تبع ذلك سلسلة من الأزمات تراوحت بين الممانعة السياسية و التعطيل و حرب الشوارع. أما اليوم، و بعد دخول الأزمة السورية طرفاً في الصراع السياسي داخل لبنان فقد بات موقف حزب الله هشاً خاصة مع تزايد توقعات المراقبين بقرب انتهاء عصر بشار الأسد.