حنين لماض وهمي أصدرت سلسلة ذاكرة الكتابة عن هيئة قصور الثقافة التي يرأس تحريرها الدكتور «أحمد زكريا الشلق» مذكرات في السياسة المصرية للدكتور «محمد حسين هيكل» في ثلاثة أجزاء باعتبار هذه السلسلة معنية بنشر الأعمال الفكرية والأدبية والنقدية التي طبعت في بدايات القرن العشرين، وقد انتهي الدكتور محمد حسين هيكل آخر رئيس لحزب الأحرار الدستوريين، رئيس تحرير جريدته «السياسة» عضو مجلس الشيوخ في زمانه من كتابة هذه المذكرات عام 1950 وغطي فيها أحداث وصراعات ربع قرن من الحياة السياسية المصرية، وتكتسب هذه المفكرات بعدا راهنا يحتاج للقراءة لأنها تتحدث عن المرحلة الليبرالية الأولي في التاريخ السياسي المصري التي ازدهرت في الثلث الأول من القرن العشرين وواصلت الحياة إلي أن قامت ثورة يوليو 1952 بحل الأحزاب بعد عام واحد في سنة 1953. ويحلو للكثير من الكتاب والساسة، حزبيين وغير حزبيين الإشارة مرارا وتكرارا إلي هذه الليبرالية الأولي باعتبارها النموذج الذي ينبغي أن يحتذي لأن نقائص المرحلة الليبرالية الجديدة التي نعيشها الآن لم تكن موجودة بها. ويبدو من مقارناتهم أننا الآن لا نكاد نتقدم في اتجاه ليبرالية حقيقية من وجهة نظرهم، وأن شكل وممارسات الدولة التسلطية القائمة الآن لم يكن موجودا في التجربة الأولي. ولكننا نكتشف عبر قراءة المذكرات مدي صحة قول «هيكل» أن ما وقع في عهدنا يتصل بما سبق اتصال السبب بالنتيجة أو المقدمة، ونكتشف أيضا أن ما يقع الآن من ممارسات تسلطية وفرض حالة الطوارئ وتقييد الحريات والتعذيب كان موجودا في ذلك الزمان وإن بصور مختلفة. وليس تعامل بعض الكتاب والمفكرين والساسة مع هذه الليبرالية الأولي بنوع من الحنين يبدو واضحا أيضا في عدد المسلسلات التليفزيونية والأفلام السينمائية التي تعالجها.. ليس إلا شكلا من أشكال الحنين إلي الماضي يروج عادة في أزمنة الأزمات الكبري التي ينغلق فيها أفق المستقبل أمام المجتمع فتقود الجماعات والأفراد إلي الماضي هربا من الحاضر، وتسبغ علي هذا الماضي قريبا كان أو بعيدا كل أحلامها وأمانيها شأن الذين يتحدثون عن عصور الخلافة الإسلامية باعتبارها عصورا ذهبية، ولذا يرفضون أي قراة موضوعية وعلمية للوقائع والصراعات التي حدثت فيها، فليس لائقا أن يتلوث موضوع الحنين الغلاب إلي العالم المثالي الذي تصوروا أنه كان قائما في الماضي، فضلا عن أنهم عبر هذا التعلق بما كان يعفون أنفسهم - موضوعيا - من التفكير والعمل في الواقع الراهن،وتحمل تبعات هذا التفكير والعمل فالأسهل لهم أن يقدموا نموذجا جاهزا وقع في الماضي وليس علينا سوي استعادته وتطبيقه حتي نرتاح. وإذا كانت مفاهيم الحرية السياسية وحرية الفكر والتعبير والتنظيم والتعددية الحزبية والحياة الدستورية هي الركائز التي تقف عليها التجربة الليبرالية نظريا، فإن فحص مدي تحقق هذه الأسس النظرية في الواقع الفعلي سواء في التجربة الأولي مطلع القرن الماضي أو التجربة الثانية التي بدأت في ربعه الأخير عام 1976 سوف يبين لنا أنه كان في التجربتين بون شاسع بين الأفكار والنظريات الأساسية العامة وبين الممارسة الواقعية لنظم الحكم في الحالتين ملكية في الأولي وجمهورية في الثانية. وثمة تفاصيل كثيرة يمكن أن نسوقها للمقارنة بين التجربتين والتماس أوجه التشابه والاختلاف بينهما لكننا سنتبين أن هناك عنصرا رئيسيا غاب دائما عن تصورات وتحليلات الليبرالية في المرحلتين ألا وهو مدي فاعلية وإيجابية الطبقات الشعبية وقدرتها علي التعبير عن نفسها، وهنا سيتبين لنا أن الليبرالية الأولي كانت في إحدي تجلياتها نتيجة ثورة 1919 التي شاركت فيها الطبقات الشعبية بنشاط متجاوزة في مطالبتها بالاستقلال التام أو الموت الزؤام كل الحدود التي كانت الطبقة السياسية البورجوازية قد وضعتها لهذا الاستقلال. وفي التجربة الثانية في ظل الرئيس السادات التي بدأت بالتعددية السياسية كانت الطبقات الشعبية وطلائعها قد أنشأت منظماتها خارج الحزب الواحد أي الاتحاد الاشتراكي في ذلك الحين، وهي فعلت ذلك رغم أنف النظام الذي عجز عن فرض شروطه علي الصراع الطبقي في ارتباطه بالصراع الوطني. كما شهدت البلاد منذ عام 1968 سلسلة من الأعمال الاحتجاجية التي رفعت شعارات تتجاوز مجرد تحرير الأرض التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وتضع تصوراتها لأسس نظام اجتماعي جديد. وفي الحالتين لم يكن الحنين إلي نموذج في الماضي هو محرك الأحداث بل كان الواقع الاجتماعي والاقتصادي السياسي هو الذي يجعل من النموذج المرجو قيد الصنع ومستقبليا ومرهونا بمساهمة الجماهير الواسعة الصانعة الحقيقية للتاريخ.