ولد «الرسول» -صلي الله عليه وسلم- يتيما، فقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه، وفي السادسة من عمره توفيت أمه آمنة بنت وهب، ففقد حنان الأم والأب، ولكنه لم يفقد حنان الرب، فعاش زاهدا وناسكا، فضلا عن أنه كان موهوبا بالذكاء والفطنة والوحي والإلهام والرؤي الصادقة، دفعه ذلك ليصعد الجبال ويتعبد في الغار المسمي بغار حراء وهو في مهد النبوة، فأحب الأنبياء والرسل وعبر عن ذلك بقوله «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بني بيتا فأجمله وأكمله إلا من موضع لبنة في زاوية من زواياه وأخذ الناس يطوفون حوله ويعجبون ويقولون هلا لو وضعت تلك اللبنة فأنا تلك اللبنة وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين»، فاستظل بظل آبائه من الأنبياء والمرسلين وعاش معهم في عالم الروح، فقد ماتت أجسادهم وعاشت وبقيت أرواحهم، فكان من أشهر أنبياء بني إسرائيل أصحاب الرسالات السماوية موسي والمسيح عليهما السلام، فأحبهما الرسول حبا جما وأحب موطنهما عند المسجد الأقصي وما حوله، ولقد راوده الأمل ليكون واحدا من أنبياء بني إسرائيل بما يتمتع به من صفات خلقية وروحية عالية، وبما أهله ربه في عالم الروح ليكون نبيا ورسولا، وحقق الله له مسعاه.. فكان مسراه، وأكد القرآن هذا المعني في سورة الإسراء بما عبرت به الآية القرآنية عن الدرجة الرفيعة والسمو الراقي، حيث قالت «سبحان الذي أسري بعبده ليلا من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير»، فالآية الكريمة تمس شغاف الغيب، والذي هو عمق المعاني الدينية للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكذلك الإيمان بيوم القيامة وبالجنة والنار، وتلك ثقافة إيمانية وروحية أقامها الرسول (ص) في مكة كمدرسة للإيمان الخالص بالله، ومن أجل إمكانية مخاطبة الذين يعتنقون عبادة الأصنام ويسيطر عليهم الجهل حتي وأدوا بناتهم خشية العار، وقتلوا أولادهم خشية الفقر، وتلك رذائل لا يجب استمرارها، وذلك من خلال رسالة فيحاء تدعو إلي الفضائل ومكارم الأخلاق، وتلك من الدروس المهمة التي تعمل علي تقدم القبائل والشعوب، وتدفع بهم إلي الأمام والتقدم المستمر، وهذا وحده علم وفن، وسياسة لا تهمل التعلم والثقافة وبناء الإنسان والمجتمع، ولقد حقق الإسراء ترابط العقائد واندماجها، وهو أمر غاب كثيرا، وإلي هذا الحد لا تنتهي الرحلة بل تبعتها رحلة فاقت كل وصف، وهي العروج إلي السماوات الروحية، وذلك درس آخر وعلم روحي جديد، وكما جاء به قوله تعالي في سورة النجم «ولقد رآه نزلة أخري، عند سدرة المنتهي، عندها جنة المأوي، إذ يغشي السدرة ما يغشي، ما زاغ البصر وما طغي، لقد رأي من آيات ربه الكبري»، وتري الآيات القرآنية تكاد تصف المكان، وهو في نفس الوقت وصف للاقتدار الروحي الذي بلغه الرسول الكريم(ص)، فعند سدرة المنتهي جنات جميلة، وأجملها جنة المأوي، وهي الجنة التي تأوي إليها الأرواح الشفافة التي فازت بنظرة حب إلهي، رغم أن الروح كانت علي أرض الحياة تعيش في الجسد، وإن خرجت فهي تسمو فوق الآفاق لتعود مرة أخري لحراسة الجسد الذي سكنت فيه منذ حياتها الأولي، وقد تبكي هذه الروح علي جسد لازمته طويلا ولكنه فارق الحياة، وتبكي معها الأرض التي تفتقد من كان يؤدي الصلاة ويسجد لله، وتبكي السماء التي لم تعد تسمع صوت الدعاء، ويغشي الرسول السدرة كروح هائمة تتفقد الجنات العالية، ليري الجمال المتألق ويلقي الترحيب في كل مكان، وما أجمل كلمات الجنة التي لا تقارن بكل كلمات الحب العاطفي بين المحبين في عالم الأرض، فالحب في الجنة مثل الوضوء والطهارة في الأرض بل أرقي، ومن هذا الحب تبدأ الدلائل التي تشير إلي القرب من أنوار العظمة الإلهية، التي تجعله في تحول من رؤية الجنة إلي رؤية الله، في ترقب وحب ممزوجين بالخوف والخشية، ويعبر القرآن عن مثل هذه اللحظات المقدسة بقوله «ما زاغ البصر وما طغي»، وقد أصبح البصر مشدودا ومشدوها إلي رؤية النور الإلهي، ومهما يكن ما تقدمه الجنة من جمال وإغراء فلن يحول دون رؤية الله، وأصبحت رؤية الجنة في هذا المقام طغيانا لمن نظر إليها وترك نور ربه ولم ينظر إليه، وهكذا كانت الأحداث الروحية في أفق روحي لم يبق به طويلا لينتقل إلي أفق آخر وهو الأفق الأعلي، حيث دنا رب السماوات والأرض وبالغ في الدنو حتي تدلي وأصبح علي أقل مسافة من رسوله(ص)، رحمة منه وشفقة، فإن زادت المسافة علي هذا القدر فقد تصل إلي حد عدم التحمل أو البقاء، حيث أكد القرآن هذا المعني في سورة النجم بقوله «فكان قاب قوسين أو أدني»، وهنا أوحي الله إليه ما أوحاه من حب ونور وعلم «فأوحي إلي عبده ما أوحي، ما كذب الفؤاد ما رأي».