تفكك الدولة وانهيارها المشهد العام في مصر لأبد أن يشعرنا بالخوف والقلق. فالدولة المصرية العريقة قد تفككت، وهي في طريقها للانهيار إن لم تكن قد انهارت بالفعل. فالمحامون والقضاة طرفا العدالة في حرب ضروس، وصدام ومواجهة يتم فيها تجاهل القانون (!) وإخضاعه للأهواء. ففي إثر مشادة يمكن حدوثها بين أي محام وأي وكيل نيابة، اعتدي الحرس الموجود علي باب وكيل النيابة بالضرب علي المحاميين محمد إبراهيم ساعي الدين ومصطفي أحمد فتوح وقيل إن وكيل النيابة صفع احدهما علي وجهه وأن المحامي تمكن من رد الصفعة وتطور الموقف عقب إصدار النائب العام قرارا بحبس المحاميين وتقديمهما لمحكمة عاجلة حكمت علي كل منهما بالسجن مع الشغل لمدة خمس سنوات. فتم اقتحام مكتب المحامي العام لنيابات شرق طنطا واحتجازه مع رئيسين للنيابة كانا في اجتماع معه، وتظاهر آلاف المحامين امام مجمع محاكم مدينة طنطا، وآلاف آخرين امام نقابة المحامين في القاهرة، ودعا نقيب المحامين حمدي خليفة المحامين للاضراب عن العمل وقرر مجلس نقابة المحامين مقاطعة جميع المحاكم والنيابات علي مستوي الجمهورية. ورد نادي القضاة بعنف علي ماحدث وعلي الانتقادات العنيفة والحادة التي وجهها جموع المحامين ونقيبهم للقضاة، وقال في بيان له إن ما آلت إليه الاحداث الاخيرة من تصاعد قصد به استدراج القضاة إلي مواجهة قد يري من نسج خيوطها أنها تحقق له مكانة غلب عليها سوء القصد وانحسر عنها نبل الغاية في محاولة مشبوهة إلي تجاوز الخصومة الجنائية إلي غير اطرافها». وفي نفس التوقيت وقعت مواجهة بين القضاء والكنيسة القبطية فالمحكمة الإدارية العليا أصدرت حكما نهائيا يلزم الكنيسة بالموافقة علي الزواج الثاني للمطلقين من الاقباط، وهو ما رفضته الكنيسة واعتبرته تدخلا في العقيدة، وأعلن البابا شنودة أن «المجمع المقدس يرفض الحكم.. فكيف تلتزم الكنيسة بشيء ضد ضميرها واعتقادها»؟ وعبر عديد من الاقباط عن تأييدهم لموقف البابا مؤكدين ان البابا ليس موظفا عاما ليلزمه القضاء الاداري بأحكامه في مسألة ذات بعد ديني. وزاد الطين بلة، أن الحكم جاء في ظل احتقان طائفي نتيجة تكرار الحوادث الطائفية بين الاقباط والمسلمين والتميز ضد الاقباط من الحكومة. وأصدرت المحكمة الادارية العليا بمجلس الدولة حكما آخر أثار ردود أفعال تمس مكانة القضاء وأحكامه.. فقضت في قضية رفعها أحد المحامين باسقاط الجنسية عن المصري الذي يتزوج من إسرائيلية. وهو حكم عدّه فقهاء وقانونيون مخالفا للدستور والقانون. فقبول المحكمة نظر القضية من شخص (محام) لا تتوفر فيه صفة المصلحة يعني قبولها لقضية «حسبة» بالمخالفة للقانون الذي منع رفع قضايا الحسبة إلا من النيابة العامة ولا يوجد قانون يحرم المصري من جنسيته نتيجة الزواج من أي امرأة أيا كانت جنسيتها، كما ان اسقاط الجنسية امر بالغ الخطورة ومحدد بدقة إلي الحد أن من يحكم عليه بالتخابر مع دولة اجنبية أو الخيانة لاتسقط عنه الجنسية. ويبلغ تفكك الدولة وانهيارها قمته بالتزوير غير المسبوق الذي جري في انتخابات مجلس الشوري الاخير. لقد منعت السلطات الناخبين من التصويت، أصلا، وقامت الشرطة بالتصويت نيابة عن المواطنين، واكتفت في بعض الدوائر بتحرير محاضر الفرز واعلان النتيجة دون حاجة لوضع الاصوات في الصناديق وفرزها لتصم كل اعضاء مجلس الشوري الجدد بأن عضويتهم غير شرعية ومزورة حتي ولوكان أحدهم يحظي بالفعل بثقة الناخبين واصواتهم، فالاصوات التي اعطيت له والتي تجاوزت غالبا المائة الف صوت (!) هي الاصوات التي قررتها الشرطة وليس الناخبون. ويصل الانهيار منتهاه بتجاهل الشرطة للقانون واعتدائها علي الحريات العامة وحقوق الانسان، سواء بعدم تنفيذها لأحكام القضاة بالافراج عن المعتقلين عن طريق ما يسمي بالاعتقال المتكرر، أو بممارستها للتعذيب بصورة منهجية في ظل حالة الطوارئ. لقد ارتبط التعذيب بصورته الجماعية والشاملة في مصر بإعلان حالة الطوارئ، لافرق في ذلك بين العصر الملكي والحكم الجمهوري. فالذاكرة مازالت تعي تعذيب «الإخوان المسلمين» وقصة العسكري الاسود، اعدام 1948 و1954 و1965، وكذلك تعذيب الشيوعيين عام 1959، وسقوط اكثر من شهيد لهؤلاء وأولئك تحت التعذيب ومنهم شهدي عطية ومحمد عثمان ولويس اسحاق.. واسماعيل الفيومي ومحمد عواد. ولكن ما نعيشه منذ اعلان الطوارئ في أكتوبر 1981 وفي ظل سلطة الرئيس مبارك طوال 29 عاما امر مغاير تماما.. فالتعذيب أصبح سياسة منهجية مستمرة للحكم القائم له رجاله وادواته ونظمه وقوانينه الخاصة. واصبح شائعا بصورة غيرمسبوقة يتعرض له المتهمون في قضايا الارهاب والمشتبه في انتمائهم أو تعاطفهم مع جماعات الاسلام السياسي، والذين يقبض عليهم في أي نشاط سياسي أو عمل جماهيري سلمي من عمال وفلاحين وطلاب، والمواطنون العاديون المتهمون في قضايا جنائية عادية، أو الذين تقودهم اقدامهم بسبب أواخر لأحد اقسام الشرطة (دون ان يكونوا ذوي حيثية في المجتمع أو لهم حماية ؟؟ أو للتعامل مع بعض ضباط وجنود الشرطة من النوعية التي تتصور نفسها فوق باقي البشر وان كلمتها هي القانون! إن هذه الظواهر كلها وكثير غيرها تؤكد تفكك الدولة وانهيارها، وما لم تتصد كل القوي الحريصة علي هذا الوطن.. احزابا وقوي سياسة وجماعات ومنظمات حقوقية ونقابية لهذه الظاهرة الخطرة، بدءا بالتغيير الدستوري والقانوني والسياسي الديمقراطي لانهاء وجود الدولة الاستبدادية القائمة.. فالوطن يندفع إلي الكارثة ربما اسرع مما يتصور كثيرون.