ذگري أمل دنقل مرت بهدوء الذكري الثامنة والعشرون لرحيل الشاعر «أمل دنقل» دون أن تتوقف الحياة الثقافية أمامها إلا قليلا، ربما لأن القيم النبيلة التي بشر بها أخذت تتآكل. و«أمل دنقل» من الشعراء الكبار في عصرنا والذي سيكتشف كل عصر قادم في عمله مستويات جديدة للقيمة وللمعني، إذ تحلق روحه الغنائية التحريضية في سماء العالم وتخلق إيقاعاته ومجازاته الملهمة رؤي جديدة لأنها رغم تعاملها مع اليومي والعادي غاصت لأعمق الأعماق واستخلصت - جماليا - قوانين كونية عرفتها كل شعوب العالم وإن بتفصيلات مختلفة وسياقات مغايرة مثل الصراع بين القيمة والمنفعة، وبين الظالمين والمظلومين واستغلال الأولين للأخيرين الذي يتخذ تجليات شتي إن في العلاقة بين الاستعمار والشعوب، بين العبودية والتحرر أو بين الكرامة والانسحاق، وهي أشكال من الصراع تتحول في التركيبات الشعرية البسيطة والعميقة إلي رؤي متناقضة ومتجادلة تجعلها الروح الغنائية العذبة سهلة التداول والحفظ كالأمثولة والأغنية الشعبية وحكايات الأطفال الساحرة، فيحفر شعره عميقا في أغوار الذاكرة الجماعية والفردية، ويحيل الحفر في هذه الأعماق قراءة ومستمعي شعره إلي الحاضر الذي يغلي بالصراعات لذا لا يقدر أن تزين أشعار «أمل دنقل» لافتات الاحتجاجات الطلابية والعمالية والجماهيرية عامة، فهو الذي كتب واحدة من أقوي قصائده «أغنية الكعكة الحجرية» عن الانتفاضة الطلابية التي اندلعت عام 1972 مطالبة بتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، وخرج الطلاب من جا معتي القاهرة وعين شمس سيرا علي الأقدام وجلسوا في ميدان التحرير في دائرة إلي أن جاءت قوات الشرطة وألقت القبض علي المئات منهم فجر يوم شتوي قارس من يناير، وكانوا يهتفون وينشدون الأغاني الوطنية ويناقشون أعقد القضايا، وقد التف حولهم مواطنون من سكان الحي والأحياء المجاورة وساندهم مجلس نقابة الصحفيين. ولعل ما كتبه بعد رحيل جمال عبدالناصر.. «لا وقت للبكاء» أن يبقي ملهما لأنه دعا بشاعرية حزينة إلي الانخراط في الكفاح من أجل تحرير الأرض حيث إن: العلم الذي تنكسينه علي سرادق العزاء منكس هناك في الجانب الآخر علي تبة ويعبر «أمل دنقل» في أغنيته الرائية المستشرقة «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» والتي كتبها بعد هزيمة يونية 1967 بأسبوع واحد عن هذه الثنائية بين الذات الفردية المتسائلة الناقدة والغاضبة والتي تري من جهة وبين الذات الجماعية التي كانت قبل ذلك مطمئنة إلي واقعها وخياراتها إلي أن وقعت الهزيمة. يقول المثقف الفرد الغاضب الناقد لزرقاء اليمامة وهو يلوم نفسه لأنه سبق أن سكت علي الهوان والضيم.. «أيتها النبية المقدسة/ لا تسكتي، فقد سكت سنة بعد سنة/ لكي أنال فضل الأمان قيل لي اخرس/ فخرست، وعميت وائتممت بالخصيان ظللت في عبيد عبس أحرس القطعان/ أجز صوفها/ أرد نوقها/ أنام في حظائر النسيان/ طعامي الكسرة والماء وبعض الثمرات اليابسة/ وها أنا في ساعة الطعان/ ساعة أن تخاذل الكماة.. والرماة.. والفرسان/ دعيت للميدان/ أنا الذي ما ذقت لحم الضان/ أنا الذي أُقصيت عن مجالس الفتيان/ أُدعي إلي الموت ولا أدعي للمجالسة». إنه التمرد علي الإقصاء، والرفض الغاضب للمقايضة التي كانت قائمة في الزمن الناصري حيث يحصل الفرد المقهور علي الأمان مقابل السكوت ومقابل جمع حرية الرأي والتعبير الفرد المأمور من قبل المجتمع الأبوي الطبقي الذي يقيم عبر الهيمنة علاقة عبد/سيد ولكن اللجوء هنا «لزرقاء اليمامة» ينطوي علي عملية تقويض داخلية لهذا النظام الأبوي الذي يوحد الجماعة تحت جناحيه، وقد استطاعت «الزرقاء» أن تري ما لم يره الجميع وهو ما يضعها كفرد في مواجهة جماعة مطمئنة علي وحدتها ولا تقبل الشقاق، إنها أيضا الضمير والمرأة الرائية في مجتمع ذكوري يفرض عليها العمي كصنو للصمت والطاعة بينما هي التي يتطابق صوتها مع صوت الشاعر تنصت إلي ما يعتمل في أحشاء العالم، وتري ما لا يراه الآخرون. استدعي «أمل دنقل» تراث قومه ليكون أداة تحريض جمالية ضد الحاضر البائس، ضد الاتفاقيات الجائرة وضد الإذلال والهوان «لاتصالح» وتمنحنا هذه المادة التراثية التي يستحضرها مفاتيح عالمه وتقيم بينه وبين قارئه صلات من المعرفة والمشاركة الوجدانية.. وبوسعنا أن نعتبر دنقل في هذا السياق شاعرا تجريبيا دأب علي إنتاج صيغ جديدة وغير مألوفة، كذلك هناك عمق النزعة الحوارية الجدلية بين العوالم والرؤي المختلفة، وربما لو قدر له أن يعيش أكثر لاختار أن يقدم لنا مسرحا شعريا فريدا كفن عظيم آخذ في الانقراض. سوف يبقي «أمل دنقل» حاضرا شأن كل شعرائنا الكبار لتقرأه الأجيال بعيون جديدة فتجد فيه ثراء بلا حد من المعاني والدلالات مستخلصة منه قيما عليا رغم تآكلها في واقع السوق والمضاربة إلا أنها تظل ثاوية في أعماق شعب لا يموت.. لذا لن يموت «أمل دنقل» أبدا.