لماذا يموت الشعراء صغارا؟، لماذا لا يحتمل حضورهم ذلك العالم المحجب، الممعن فى تأطير الفوضى، والتنظير للكائن والثابت والقديم؟، يختارهم الموت بالتواطؤ، وتأكلهم الحفر وبالوعات الشوارع، حتى المرض يصطادهم يا ربى!، وتترقبهم جلطات الروح والقلب والدماغ. ربما لا يكون الجنوبى المتمرد «أمل دنقل» الذى لم تحتمله الحياة أكثر من (42) عاما، هو أشهر هؤلاء ولا أعظمهم ألما، لكنه كان أكثرهم تمجيدا للحياة رغم افتقاره أغلب فترات حياته لأبسط مقوماتها. كان ياما كان إنه كان فتى لم يكن يملك إلا مبدأه لا ينتهى حلمٌ إلا وحلمٌ بدأه ابن قرية «قفط» ذو ال68 عاما، المخصوم منها 26 عاما فى الغياب، وثلاثة أخرى بين جدران الغرفة (8)، كان يحارب الموت بالرفض، ليؤكد أن: من قال لا فلم يمت وظل روحا عبقرية الألم. وبالأمس ما بين حضوره الإبداعى الدائم، ودوام غيابه عن المؤسسات المكتنزة بالقتلة وقطاع الطرق، مر العام السادس والعشرون على رحيل «أمل دنقل» عام 1983، فى الغرفة (8) بمعهد الأورام، مخلفا 6 مجموعات شعرية: (البكاء بين يدى زرقاء اليمامة، تعليق على ما حدث، مقتل القمر، العهد الآتى، أقوال جديدة عن حرب بسوس، وأوراق الغرفة 8)، ووجها صلب السمرة، ودماء لم تنشف لشعراء يتناوبون على الموت أو الانتحار، ليهنأ بالحياة والجوائز وأبواق الإعلام الجهلة والتافهون والأنصاف، هنيئا لهم بما حرّم على أمل دنقل. أمل دنقل الابن الأكبر للشيخ «فهيم محارب دنقل»، أستاذ اللغة العربية ورجل الدين، والذى ولد عام 1941 بقرية القلعة مركز قفط بالقرب من مدينة قنا بصعيد مصر، سمى بهذا الاسم، لأنه ولد بالسنة نفسها التى حصل فيها أبوه على «الإجازة العالمية». فقد أمل دنقل والده فى العاشرة من عمره؛ فأصبح وهو فى هذه السن، مسئولا عن أمه وشقيقيه، وربما كان هذا الفقد هو السبب فى مسحة الحزن التى ظهرت فى أشعاره، لكن رفيقه الشاعر «عبدالرحمن الأبنودى» يرى أن وضعه فى موقف المسئول عن أسرته وأخيه أنس وأخته أحلام، جعله يخوض معارك الأرض والإرث والدفاع عن حقوق أسرته الصغيرة، بينما كان والد الأبنودى على قيد الحياة، قد أكسب «أمل» حرية لم يكن الأبنودى يملكها «بحكم حفاظى على وقار الشيخ وعمامته وجبته وقفطانه ووضعه الدينى». أنهى «أمل» دراسته الثانوية بمدينة قنا، والتحق بكلية الآداب فى القاهرة، لكنه انقطع عن متابعة الدراسة منذ العام الأول، ليعمل موظفا بمحكمة قنا وجمارك السويس والإسكندرية، ثم موظفا بمنظمة التضامن الأفروآسيوى، لكنه كان دائم الفرار من الوظيفة لينصرف إلى الشعر. عاصر أمل دنقل أحلام العروبة والثورة المصرية، وصدم ككل المصريين بانكسار مصر فى نكسة 1967، وعبّر عن صدمته فى رائعته: «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» ومجموعته «تعليق على ما حدث»، شاهد أمل دنقل بعينيه النصر وضياعه، وصرخ مع كل من صرخوا ضد معاهدة «كامب ديفيد» ووقتها أطلق رائعته «لا تصالح»، التى كانت مكسبا للقضية وللمحمومين بالنصر الذى تبدد، لكنها كانت جناية على «أمل» ذاته، ليس فقط للعيوب الفنية التى علق عليها آن ذاك العديد من النقاد والشعراء، لكن لأنها حبست هذا الشاعر الأكثر من حالم وشفيف وثائر ومتنبئ فى قمقم الزعيق السياسى، ولم تستطع أن تقتص من هذه الصورة، رائعته الإنسانية الذاتية «أوراق الغرفة 8»، التى كتبها ما بين نزيف المرض على سرير الموت وبياض الكفن، لذا فإن أغلب عشاق «أمل دنقل» الحقيقيين عادة ما يرفضون اختزاله فى الشعر السياسى على روعة قصائد الشاعر فى هذا السياق، لأنه وفقا لأحد هؤلاء العشاق: «أكبر من مجرد شاعر غاضب، أكبر من أمير لشعراء الرفض، هو حالة شعرية خاصة بتناقضاتها، ربما لن تتكرر ثانية. وفى 21 مايو عام 1983م أنهى الموت معاناة «أمل» ليلحق بأبيه وأخته رجاء التى ماتت صغيرة هى الأخرى، وطالما رثاها «أمل» رافضا غيابها، كما رثى والده ونفسه راجيا الله ألا يغيب اسم والده مرتين، مرة بموته (الأب)، ومرة بموت ابنه الشاعر المريض «أمل»: خصومة قلبى مع الله أين ورث أبى؟ ذهب الملك، لكن لاسم أبى الحق أن يتناقله الابن عنه لماذا يموت أبى مرتين؟ فيا أيتها الأنجم المتلونة الوجه قولى له: قد أخذ حياتين ابق....... حياة ورد....... حياة! ثم رثاهما مرة أخرى فى قصيدة «الجنوبى» الورقة الأخيرة فى رحلة «أمل دنقل» التى رثى بها أباه وأخته وصديقه الأقرب «يحى الطاهر عبدالله» ونفسه، قائلا: صرت عنى غريبا ولم يتبق من السنوات الغريبة إلا صدى اسمى....