قضية للمناقشة كيف يمكن أن يصل البشر إلى السعادة؟ حين كتب "نجيب محفوظ" روايته "الطريق" طرح علي القراء والمثقفين والحياة الفكرية عامة الأسئلة التي يمكن أن نصفها بالخالدة, وهي التي طرحتها البشرية علي نفسها ولا تزال تطرحها, وعلي رأسها سؤال السعادة. كيف يمكن أن يصل البشر جميعا إلى السعادة التي يتمنون؟ نشط المفكرون والفلاسفة والكتاب في البحث عن إجابة ولا أظن أن أيا من الباحثين قد توصل إلى ما يمكن أن نسميه الاجابة الشافية. فهل هناك إجابة شافية حقا؟ أظن أننا جميعا سوف ننفي انه يمكن ان تكون هناك أي إجابة شافية. ولكن بالقطع هناك إجابات متنوعة ولو جزئية. انشغل مفكرون وباحثون وكتاب علي مر التاريخ وفي كل البلدان تقريبا بمحاولات الاجابة عن هذا السؤال. ونشأت في هذا السياق عشرات المدارس والاتجاهات الفكرية برزت من بينها الاشتراكية بكل التباينات والاختلافات بين المدارس والبلدان إون تأسست جميعا علي مفهوم شامل للعدالة. وكان هذا البروز ناتج صراع ممتد ومتعدد الاشكال بين القوي الاجتماعية التي طالما انقسمت عموما الي قسمين الاول يضم الملاك وأصحاب النفوذ أي الثروة والسلطة, والثاني يضم المنتجين العاملين بأجر لدي هؤلاء الملاك مع تباينات هنا وهناك داخل كل منهما. وانتج هذا الصراع اشكالا متعددة من ردود الافعال التي دافع عبرها كل طرف عن مصالحه, وبالتالي عن أفكاره ورؤاه. ووصف المفكرون والباحثون عبر التحليل والمتابعة ردود الأفعال هذه برؤي العالم المبنية علي مصالح كل طرف. واستغرق تعريف رؤية العالم وقتا وجهدا فكريا متنوعا ومازال. والآن, وبعد ان انخرطت البلدان- كل بطريقتها- في محاولات البحث عن الاجابة الشافية المنشودة. وقامت نظم كانت تسعي الي بلوغ المثل الاشتراكي وسقطت أخرى على الطريق إلى ان حدث الانهيار الكارثي لمنظومة البلدان الاشتراكية بعد سبعين عاما من صعود اول تجربة في تاريخ العالم لبنائها. وعرف الاشتراكيون علي امتداد المعمورة صورا من التشفي والشماتة حتي ان بعض المفكرين الرأسماليين بشرونا بنهاية التاريخ, حين اعتبروا ان التاريخ الانساني قد وصل الي غايته القصوي بانتصار الرأسمالية انتصارا نهائيا لا رجعة فيه. ولكن التاريخ نفسه هو الذي سرعان ما كذبهم, فبعد هدوء بدا كأنه النهاية انطلقت مجددا صور شتي من النضال العملي الشعبي ضد ظلم الرأسمالية بحثا عن العدل, وهو ما دفع بالرأسماليين الي اطلاق نظم تنهض علي قدر من العدالة تفاديا لانفجار غضب الكادحين الخاضعين للاستغلال. وبالتفاعل بين سعي الكادحين لتغيير الاوضاع واقامة العدالة الحقيقية وفزع الملاك مما يمكن ان يلحق بهم لو انفجر الغضب تولدت صور شتي مما يمكن ان نسميه التسويات الاجتماعية, ولكن مثل هذه التسويات- علي اهميتها- لم ترض الطموح الاساسي لملايين الاشتراكيين عبر العالم الذي يمكن تلخيصه في انهاء استغلال الانسان للانسان, وتوجيه الفائض لا الي جيوب كبار الملاك وانما الي المنفعة العامة للملايين, هذا اذا شئنا ان نختزل الهدف الاساسي للاشتراكية في جملة واحدة. ندرك جيدا ان التاريخ الانساني لم يعرف أبدا الطريق الواحد الممهد والمستقيم الي هدف ما, لان مسيرة التاريخ كانت صراعا دائما بين قوي اجتماعية وافكار ومدارس واتجاهات. ولكننا ندرك ايضا ان البشرية لم تصل بعد الي حلمها الذي يصفه المحافظون علي الوضع القائم باليوتوبيا اي الحلم الخيالي, وبالتالي المستحيل التحقيق. ونعرف جميعا الشماتة التي سادت في اوساط المحافظين علي الوضع القائم دفاعا عن مصالحهم حين انهارت التجربة الاشتراكية الاولي وعادت روسيا القهقري الي النظام الرأسمالي. ولكن هذه الوقائع – علي مأساويتها ولدلالتها العميقة لم تفلح في دفن حلم الانسانية باقامة العدالة كما قال أو بالاحري حلم دعاة نهاية التاريخ. فالتاريخ لم ينته ولم يتوقف. هناك فروق اساسية بطبيعة الحال بين مستوي تطور البلدان المتقدمة ومستوي تطور البلدان النامية. وهي الفروق التي كانت موضوعا لدراسات معمقة قام بها مفكرون وكتاب من هذه البلدان وتلك بحثت من ضمن ما بحثت عن خصائص موحدة (بكسر الحاء) لهذه البلدان. واستغل بعض العنصريين هذه الخصائص المكتشفة لتعميم افكار غير علمية تحط من شأن البلدان النامية. واتضح في هذا السياق ان النزعة الاستعمارية لا يختص بها فقط بعض مفكري البلدان الاستعمارية وانما انتقلت الي بعض مثقفي البلدان المستعمرة ذاتها (بفتح الميم). وهو الوضع الذي نشأ علي اثره علم التبعية, وعرفت بلدان المستعمرات انتاجا سخيا في ميدان هذا العلم الذي اسسه مفكروها. ولا تخفي علينا الالتباسات التي حدثت بين ما يمكن ان نسميه بالتفاعل الثقافي وبين التبعية اذ طالما تخفت الاخيرة وراء ادعاء التفاعل بينما يمارس حاملوها الاستعلاء علي الاخرين.