تتواصل الاحتفالات فى الأوساط التقدمية فى غالبية بلدان العالم بالعيد المائة للثورة الاشتراكية فى روسيا وبلدان آسيا التي تكون منها الإتحاد السوفيتي بعد ذلك. إذ سرعان ما برز الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وشكلت الثورة الإشتراكية مرحلة جديدة تماما فى تاريخ الإنسانية، وفتحت آفاقاً لإنجاز التقدم الإنساني دون استغلال للبشر، أو حرمان لغالبية كبيرة من العيش بكرامة كما كان الحال فى النظم السابقة على الاشتراكية، وهي نظم قامت على الاستغلال والحرمان. إنهارت التجربة الاشتراكية الأولى فى تاريخ البشرية وقال المفكر الاشتراكي الراحل « هوبزباوم» لقد كف الرأسماليون والاحتكاريون عن الخوف من الاشتراكية، بعد سقوط التجربة فى الاتحاد السوفيتي «. وسارع منظرو الرأسمالية الأبدية إلى إطلاق تنظيراتهم الجديدة وكان أبرزها مقولة « نهاية التاريخ « التي صكها « فوكوياما» ولكن الرياح لم تأت بما تشتهي السفن كما يقال، إذ أن القيم التي أنتجتها مسيرة الاشتراكية فى عمرها القصير بقيت حية وملهمة لأجيال جديدة من المناضلين من أجل العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية والعيش الطيب لكل البشر الذي يتحررون فيه من كل أشكال الحرمان والاستغلال والخوف، إذ تتكامل الشخصية الإنسانية وتغتني. كان المثل الأعلى للإشتراكية ومازال هو توفير كل الاحتياجات الضرورية والتي تتزايد بتطور العلم والتقنية توفيرها لكل البشر دون تمييز لكي يصلوا جميعا إلى آخر ما يمكن أن تحملهم إليه إمكانياتهم الذاتية المحررة من القهر والقسر والحاجة، وذلك عبر تعليم جديد يقوم على العلم والتجربة والنقد، تعليم يحرر البشر، ولا يعيد إنتاج القهر الطبقي، وتبرير اللامساواة والتمييز بالحديث عن طبيعة ثابتة للبشر، لأنه ينتقد بصورة علمية كل مقولات المجتمعات الطبقية. حشدت الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والاحتكارات الكبرى التي تسيطر على الاقتصاد العالمي كل قواها ومؤسساتها الإيديولوجية والإعلامية لترويج الوعي الزائف على الصعيد العالمي، عبر الإنتاج الثقافى الذي يحمل قيمها إلى البشر فى كل مكان، وكان أن حدث هذا التلوث الواسع فى القيم والذي كان هدفه الأول ولا يزال هو محو القيم الإشتراكية من ذاكرة الكادحين وإلقاؤهم فى أتون التنافس الضاري، والأنانية، والحلول الفردية، بعد أن القت السياسات الإقتصادية بهم فى جحيم البطالة وغموض المستقبل، وحيرة البحث عن أفق للخروج. لم ينتظر الكادحون طويلا بعد سقوط التجربة الإشتراكية ليبدأوا السير من جديد على طريق العمل من أجل عالم جديد مستلهمين فى كل أرجاء المعمورة قيم التضامن التي كانت قد أرستها الاشتراكية عبر النضال المشترك للعمال والفلاحين والجنود والمثقفين الطليعيين. وعبر هذا التضامن بين الكادحين فى كل بلد على حدة وعلى الصعيد العالمي جرى طرح كل الأسئلة الجديدة التي فرضتها المرحلة، وانفراد الرأسمالية المتوحشة بالساحة العالمية، وإطلاق كل من البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية لخنق اقتصادات البلدان التي سقطت فى التبعية وبلورت المصطلحات الزائفة مثل « الإصلاح الاقتصادي « الذي أسفر فى الممارسة عن أوسع عملية إهدار لحقوق العاملين، وتدمير مستوى معيشتهم وإغلاق أبواب المستقبل فى وجوههم. وكان الوعي الزائف هو دائماً أداة رئيسية من أدوات سلطات الاستغلال والقهر، وأنتجت التجربة الاشتراكية فى مواجهة الوعي الثوري الذي أسسته على العلم والمعرفة، لا على الخرافة والسفسطة. وبدلا من تنمية الإنتاج الوطني عملت السلطات التابعة على تنمية الاستهلاك، وصولا إلى الاستهلاك السفيه الذي يغرق فيه أصحاب المليارات وهم يروجون لكل ما هو تجاري وسطحي، إذ أن التحليل العلمي الموضوعي العميق يفضحهم، وكانت الاشتراكية وهي تبني أكبر قاعدة تعليمية فى بلد التجربة الأولى وسط صعوبات هائلة قد حرصت على أن تصل الثقافة والوعي الجديد إلى أوسع قاعدة شعبية، وتنزل الثقافة من علياء النخبوية، فلم تتوسع فحسب فى تأسيس المدارس والجامعات ومعاهد العلم، وإنما توسعت أيضا فى طباعة الكتب ودعم صناعة السينما حتى جاء وقت كانت النظم الامبريالية تشعر فيه بالخوف من انتشار القيم الاشتراكية لدى العاملين فى بلدانها. توسعت الاشتراكية فى إغناء مضمون المشاركة الشعبية لأن الثورة ذاتها كانت عملاً ديمقراطياً بامتياز لم تكن البشرية حينها قد عرفته من قبل، لأنها جذبت إليها ملايين الكادحين والعاملين بأجر فى كل أنحاء العالم. ولا يستطيع محلل منصف أن يتجاهل التأثير العميق للقيم الاشتراكية على كل الانتفاضات والثورات والتحركات الاجتماعية التي عرفتها غالبية شعوب العالم بعد سقوط التجربة الاشتراكية وكيف كانت هذه القيم الملهمة تشكل بصيرة الملايين الذين حين سقطت التجربة تشبثوا بحلمهم فى بناء عالم جديد، عالم لا يعيد إنتاج مافات وإن كان يتعلم منه ولكنه يحمل خصائص الزمن الجديد الذي يولد فيه، فإذا كانت التجربة قد سقطت فإن قيمها العليا لم تسقط.