كان الاندفاع الأمريكي في مواجهة الصين هو السبب الرئيسي في تحركها نحو عقد صفقة أوكوس مع أستراليا دون أخذ رد الفعل الفرنسي في الاعتبار, فالاستياء الفرنسي يبدو مبرراً في ظل امتلاك فرنسا أكثر من 10 ملايين متر مربع من المياه الاقتصادية الخالصة بسبب وقوع مجموعة من الجزر في المنطقة المجاورة لاستراليا تحت سيطرتها, ولذلك كان فقدان هذه الصفقة هو خسارة كبيرة ليس فقط علي الصعيد الاقتصادي, لكن علي الصعيد الاستراتيتجي للتحالف الضروري بين استرالياوفرنسا لتضمن فرنسا وجوداً فعالاً في هذه المنطقة والتي تسمى حديثاً بمنطقة "الإيندوباسيفيك" (نقطة التقاء المحيط الهادي بالهندي). ارتكز التحرك الأمريكي المتجاهل للمصالح الفرنسية علي عدم تحمس فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي للدخول في صراع مباشر مع الصين, وهو الذي يختلف عن النهج الذي تتخذه واشنطن وتخطط له بوضوح في بحر الصين الجنوبي, حيث تستعد الولاياتالمتحدة لحصار الصين في بحرها الجنوبي حاشدة في ذلك كل دول المنطقة بمن فيها أستراليا, التي أصبحت علي درجة عالية من القلق من التوسع الصيني في بحر الصين الجنوبي ومنطقة الإندوباسيفيك. قدمت الولاياتالمتحدة الصفقة الرابحة لأستراليا, التي تعاقدت مع فرنسا علي بناء غواصات تقليدية بتعاون مشترك ينتهي إلى تسلم أستراليا للغواصات في عام 2030, بإجمالي أرباح للصالح الفرنسي تصل إلى 56 مليار يورو. لكن العرض الأمريكي كان الأكثر إغراء حيث تكون الغواصات المُسلمة لأستراليا غواصات نووية قادرة علي حمل الرؤوس النووية والصواريخ بعيدة المدى والتي سيُنجز بناؤها خلال خمس سنوات فقط, وهو ما يرفع القدرات القتالية للبحرية الأسترالية بشكل غير مسبوق. ترى فرنسا وشركاؤها الأوروبيون أن التصعيد السريع في مواجهة الصين ليس تصرفاً صائباً, لكنها على الجانب الآخر ترى التوسع الصيني العالمي علي كافة المستويات أمراً مقلقاً, ولكن من الواضح أن الرؤية الفرنسية الأوروبية للتحدى الصيني ليست بالحدة التي تتسم بها الرؤية الأمريكية البريطانية تجاه الصين, فخلال الفترة الماضية لم تتوقف دول الاتحاد الأوروبي في مقدمتها فرنسا وألمانيا عن عقد الشراكات الاقتصادية مع الصين. وتوالت التصريحات التي تؤكد أهمية الصين وضرورة الشراكة معها, رغم وجود بعض الاعتراضات على سلوك الصين في أفريقيا (بالنسبة لفرنسا), وعدم رضا الاتحاد الأوروبي عن ملف (حقوق الإنسان في الداخل الصيني). وهو ما دفع كثير من المحللين بالاعتقاد أن التصرف الأمريكي الأخير هو شكل من أشكال الضغط علي الجانب الأوروبي للانضمام إلى التحالف الإستراتيجي المُصمم خصيصاً لردع الصين ومواجهتها عسكرياً إذا تطلب الأمر, هذا التحالف الذي تصفه الصين بأنه نتاج عقلية الحرب الباردة التي تتحلى بها الولاياتالمتحدة, والذي يضم كلًا من الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدةوأستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان, والذي من المتوقع أن يسعى لاستمالة دول منطقة بحر الصين الجنوبي التي تعاني من فرض السيطرة الصينية علي بحر الجنوب مثل فيتنام وبروناي وتايلاند وماليزيا وإندونيسيا. تعتمد الرؤية الأمريكية علي المواجهة المباشرة مع الصين عبر الوجود العسكري في بحر الصين الجنوبي محاطاً بتحالف من الدول المجاورة, كل ذلك عبر بناء تحالف عسكري بحري يقيد تحرك الصين في البحر الجنوبي (لذلك تكون للغواصات النووية الأسترالية أهمية كبيرة), ويضمن ردعها في حالة قررت السيطرة عليها كاملاً ( وهو ما وضحناه في تقرير سابق نشر في 8 سبتمبر الجاري), بينما تري فرنسا التي أشرنا سابقاً إلى امتلاكها لجزر في المنطقة يقطنها 1.5 مليون مواطن فرنسي, تري أنها يمكن أن تضمن منطقة تجارية مستقرة ولا تسيطر عليها الصين عبر عقد الشراكات مع كافة الدول أولها بين فرنساوأستراليا والهند, ولا تتضمن هذه الرؤية أي اشتباك عدواني مع الصينيين. وبهذا تكون اتفاقية أوكوس قد أنهت المشروع الاستراتيجي الفرنسي بعيد المدى، وأضاعت علي فرنسا أرباحاً بمقدار 56 مليار يورو, وتجاهلت المصالح الفرنسية المباشرة الواقعة في منقطة الإيندوباسيفيك. بينما ترى الولاياتالمتحدة أن عليها غلق بحر الصين الجنوبي أمام الصين لكي تتمكن من إضعاف صعودها الاقتصادي الذي يبدو أنه لا طريق لإيقافه سوى عبر التدخل المباشر, فإذا حدث ونجحت الولاياتالمتحدة في هذا المشروع سوف تفقد الصين معبرها التجاري الرئيسي وقدرتها علي تحقيق مبادرة الحزام والطريق التي من شأنها أن تحقق سيادتها الاقتصادية على العالم. ربما يكون هذا الخلاف حول الصين هو السبب الرئيسي الذي دفع الولاياتالمتحدة نحو إجراء اتفاق شراكة مع أستراليا دون الالتفات للخسائر التي ستقع على فرنسا. وهذا الإجراء الأخير يضاف إلى قائمة من الأسباب المتنوعة التي تدفع فرنسا الاتحاد الأوروبي نحو إعادة صياغة رؤيتهم لعلاقاتهم السياسية مع العالم الجديد, فبعد أن راهنت أوروبا على تغير دراماتيكي بين سياسات ترامب وبايدن تجاه الكثير من القضايا, تبدد الأمل مع هذا الاتفاق الأسترالي والذي سبقه انسحاب الولاياتالمتحدة مع أفغانستان, وهي الخطوة التي أثارت غضب واستياء فرنسا وألمانيا والدول التي شاركت الولاياتالمتحدة في الدخول إلى أفغانستان. وبهذا تتوسع الفجوة في الرؤي الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة بعد ثبوت أن سياسة بايدن الخارجية لن تختلف كثيرا عن سياسة ترامب, فالفارق الملموس الوحيد بين الرئيسين هو اللغة الدلبوماسية التي تتحلى بها إدارة بايدن تجاه الحلفاء. وأولى هذه المراجعات في الرؤي بالنسبة لأوروبا وفرنسا بالتحديداً تنقلنا إلى مسألة حلف الناتو الذي أصبح مهدداً بأن يكون مؤسسة لا دور لها, فقد سبق الإعلان عن صفقة أوكوس حديث في الداخل الأوروبي عن ضرورة جيش أوروبي مشترك, ومثل هذا الطرح لا يؤدي في النهاية إلا إلى تحول حلف الناتو إلى جهاز ثانوي قليل الأهمية, خصوصاً أن الاتحاد الأوروبي هو الطرف الرئيسي الفاعل فيه. وجدير بالإشاراة أن الإعلان عن اتفاقية أوكوس جاء ليستبق الإعلان عن الإستراتيجية الأوروبية الجديدة في منطقة الإندوباسيفيك, والتي قامت على عدة محاور أهمها "احتواء" الصين لضمان التجارة والملاحة الحرة الآمنة في المنطقة, ويبدو أن "أوكوس" كانت رداً استباقياً علي هذه الاستراتيجية التي تفضل التعامل مع الصين عبر الاحتواء وليس المواجهة. والموقف البريطاني هنا يزيد الأمور تعقيداً, حيث شاركت بريطانيا في الأعمال التأسيسية لهذه الاستراتيجية, بينما كانت الطرف الثاني في اتفاقية أوكوس مع أستراليا. سيناريوهات فرنسا يبدو أنه ليس أمام فرنسا الكثير من أوراق الضغط في مواجهة التصرف الأمريكي الجديد الذي اتبعته المملكة المتحدة. ففرنسا هي الخاسر الأكبر من ما حدث. ولذلك يصبح هناك سيناروهان قابلان للحدوث من طرف فرنسا, الأول أن ترضخ للاستراتيجية الأمريكية العدائية في مواجهة الصين وتحظو حظو المملكة المتحدة التي أرسلت قطعاً عسكرية تعاون الأسطول الأمريكي في فرض سيطرته علي بحر الصين, أو أن تختار التصعيد وتدعو لمزيد من الخطوات الجادة لتشكيل جيش أوروبي مستقل يخلصها من التزاماتها في الناتو الذي أثبت عدم فاعليته, خصوصاً بعد الصدام الذي وقع بعد حدوث اصطدام شبه عسكري بين قطعة بحرية فرنسية وأخرى تركية علي خلفية الصراع علي شرق البحر المتوسط, وتركيا هي الدولة الثانية من حيث الأهمية في حلف الناتو, ورغم ذلك لم تمنعها عضويتها في الناتو من الاصطدام بالمصالح الأوروبية في شرق المتوسط. ثم من الممكن لفرنسا أن تستعين بآلية التحكيم الدولي الأوربي للرجوع على كل من بريطانياوأسترالياوالولاياتالمتحدة للحصول علي تعويضات مالية إزاء الإلغاء التعسفي المفاجيء للصفقة بين أسترالياوفرنسا. ويذهب بيير أونوريه, المحلل السياسي, بأن مثل هذا الإجراء العدائي من قبل الولاياتالمتحدة قد يدفع فرنسا لمزيد من التقارب الفرنسي مع الصين, تلك الأخيرة التي عبرت عن استيائها تجاه الصفقة الأمريكية الأسترالية والتي أوضحت أنها موجهة بالأساس ضدها, رغم تصريح بريطانيا بأن هذا التحالف بين الولاياتالمتحدة والمملكة المتحدةوأستراليا ليس تحالفاً في مواجهة أحد. أياً كان الخطوات التي ستتخذها فرنسا فهي لن تكون ذات أثر بالغ على أي من الدول الثلاث الأطراف في صفقة أوكوس, ومن المتوقع مستقبلاً أن يحدث التفاهم الفرنسي مع الولاياتالمتحدة بخصوص منطقة الإيندوباسيفيك, لكن المسألة الأهم أن هذه الخطوة الأمريكية البريطانية أكدت للاتحاد الأوروبي, وبالأخص لفرنسا وألمانيا, أن الاعتماد علي الولاياتالمتحدة في كثير من القضايا الاستراتيجية لم يعد ممكنا أن يستمر علي النحو الذي كان عليه.