قضية للمناقشة أشياء لا تُشتري فريدة النقاش قال متحدث باسم المقاومة الفلسطينية بعد المواجهة الأخيرة بين فلسطين وإسرائيل التي استمرت أحد عشر يوما في غزة, قال ليس أمام سكان الغلاف- أي الحدود المتاخمة لغز- إلا الرحيل. وأضاف إن الفلسطينيين لم يستخدموا في هذه الحرب الخاطفة إلا أداتين فقط من عشر أدوات يمتلكونها. وتعيد قضية تحرير فلسطين- وهي الدولة الوحيدة المحتلة حتي الآن في العالم- تعيد إلى الأذهان حرب تحرير "فيتنام" في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. ويثور في هذا الصدد السؤال نفسه عن عدم التكافؤ, إذ اننا لو أجرينا عملية حسابية بسيطة حول ما كانت تملكه فيتنام عسكريا واقتصاديا, وما كانت تملكه الولاياتالمتحدةالأمريكية, فسوف يصعقنا التفاوت الهائل, إذ يمتلك الغزاة أسلحة متقدمة, وموارد مادية بلا حصر في مواجهة شعوب فقيرة تضربها الأمية وبدائية الموارد العسكرية. لم تكن هذ إذن القوة العسكرية الخارقة للفيتناميين في زمان انتصارهم, ولا للفلسطينيين الآن هي ما فتحت الباب أمام الانتصار المذهل علي التفوق العسكري. كانت هي إذن روح المقاومة, والإيمان المطلق بعدالة القضية التي تدافع عنها الشعوب, وهي أشياء لا يملكها الغزاة أيا ما كانت قدراتهم المادية والعسكرية. وهي أشياء لا تشتري علي حد تعبير الشاعر "أمل دنقل" ولابد أن يقودنا التفكير المتأني في هذه المسألة إلى تجاوز النزوع العملي البحت, والتوقف من حين لآخر أمام الأفكار والمعاني الرفيعة. فالانسياق وراء النزوع العملي البحت, والمنفعة المباشرة بصرف النظر عن ما يكمن وراءها كثيرا ما يقود إلي ما يشابه العمي, ويصبح المرء كمن يمشي في الظلام ويتخبط ولا يندر أن يقع, فضلا عن الآثار السلبية في بناء شخصيته. ولطالما كان الخوف من الأفكار سمة رئيسية من سمات المستبدين أيا كانت جنسياتهم أو أهدافهم. ذلك أن طرح الأفكار يقود إلى الجدل, ويقود بالضرورة أيضا الي البحث في مشروعية ما هو قائم, فاذا كان ما هو قائم ليس موضع رضا, يتولد تلقائيا البحث عن بدائل, ثم التوجه الي صنع هذه البدائل, ويدفع ايضا الي تبلور أشكال للمقاومة. والقول بأن ما هو قائم هو أمر طبيعي يعطل واحدة من أهم الملكات التي حبا الله بها الإنسان, أي ملكة التساؤل التي ينهض عليها التوق إلي المعرفة واكتشاف المجهول. ولولا هذه الملكة (بفتح الميم واللام) ما استطاع الانسان ان يسبر أغوار العالم, وينجح يوما بعد الآخر في اكتشاف أسرار الطبيعة وتطويعها لصالح التقدم الانساني. وجري العرف علي حصر مفهوم المقاومة في مواجهة الغزاة الأجانب أي المستعمرين والمحتلين. ولكن التجارب الانسانية المتنوعة علمتنا ايضا ان الاستغلال المحلي كثيرا ما يكون أشد وطأة علي الطبقات والفئات الخاضعة للاستغلال من الغزو الأجنبي, فهذا الأخير عادة ما يكون واضحا ولا لبس فيه, ولكن ما عرفته الانسانية باسم الصراع الطبقي أدي في بعض الأحيان الي حروب اهلية طويلة قاوم فيها المظلومون عنف الاستغلال, وانتصروا وانكسروا, وتعرضت أشكال هذه المقاومة الأخيرة للتشويه أحيانا تحت شعار الوطنية, وباسم الانسجام القومي. ودارت معارك فكرية- لا تقل ضراوة عن المعارك المادية المباشرة. وكانت أسهل الوسائل أمام الظالمين الذين يمارسون الاستغلال هي استخدام الدين وتطويعه لتبرير النهب المنظم للجماهير العاملة. ولكن صراع الأفكار هذا انتج رؤي وقراءات جديدة وتقدمية للديانات كافة, فعرفت امريكا اللاتينية "لاهوت التحرير" وعرف العالم الاسلامي "اسلام الأنوار" ومارست كل الديانات عمليات تجديد واسعة لمقولاتها, وقراءات جديدة لكتبها, لتواكب ما أطلقت عليه بعض الادبيات عصر الجماهير, ونتجت عن هذا الصراع أفكار جديدة ورؤي استطاعت أن تتحدث كل ما هو ظالم ومعطل لمسيرة البشرية نحو التقدم والعدالة والمساواة, وهي تقاوم الاستعمار والاستغلال معا. وفي ظل هذا التاريخ الطويل من الصراع والمواجهات علي كل الجبهات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية نمت وتطورت مدارس الفكر الكبرى في كل الحضارات والثقافات أسهمت فيها الشعوب كافة كل حسب موقعه ومستوى تقدمه ليتجلي المعني العظيم الذي تبلورت حوله كل القيم الإنسانية الكبري. إن الله واحد والانسان واحد. ولا يقلل من أهمية هذا الإنجاز العظيم إنه لا يزال موضوع جدل.