بقلم د.نبيل رشوان فى الوقت الذى كان فيه مواطنو بيلوروسيا يستعدون للاحتفال بعيد الميلاد وعيد رأس السنة، كان الرئيسان الروسى فلاديمير بوتين، والبيلوروسى الكسندر لوكاشينكو يتباحثان فيما يتعلق بشروط تصدير النفط والغاز والغاز إلى الدولة الحليفة بيلوروسيا، وهو ما أصبح عادة سنوية للرئيسين، وبين دولتين من المفترض تجرى مباحثات بينهما حول التكامل أو وحدة اندماجية. هذه المرة لم يتمكن الرئيسان من التوصل إلى اتفاق فيما بينهما، فقد هاتف الرئيسان بعضهما البعض أكثر من مرة، وهنأ كل منهما نظيره بالعام الجديد، لكن لم يتوصلا لاتفاق، وكان المحصلة النهائية أن قامت روسيا بإغلاق محبس النفط الموصل لبيلوروسيا. مع أن شركة نفط الأورال، التى أوقفت تصدير النفط عن بيلوروسيا، هى نفس الشركة التى عطلت معامل تكرير النفط فى بيلوروسيا فى إبريل من العام الماضى عندما ضخت لهذه المعامل نفط ملوث أدى إلى تعطيل المعامل، وفى نفس الوقت تضخ الشركة النفط بشكل طبيعى، فى الوقت الراهن، إلى الدول الأوروبية عبر بيلوروسيا، ومن خلال خط أنابيب “الصداقة”. ونقلت الصحف الروسية عن رئيس شركة “بيلونفط كيمياء” قوله إننا نوقع عقود توريد النفط كل عام، وهاهو عام 2020 قد جاء ولم نوقع بعد عقدًا للعام الجديد، وأكد أن بلاده لديها احتياطى من مخزون النفط، ولذلك لم تتوقف مصافى التكرير، وأشار المسئولون فى الشركة البيلوروسية إلى أن لا يدرون متى ستوقع الاتفاقية الخاصة بالعام الجديد، فهى لن توقع إلا بعد الاتفاق على السعر على أى حال. تشير وكالة تاس الإخبارية إلى أن احتياطى النفط فى بيلوروسيا يكفيها حتى آخر يناير الجارى، بينما رفض العاملون فى شركة تكير النفط البيلوروسية تحديد موعد لانتهاء الاحتياطى لديهم، وأشاروا إلى أن الموجود لديهم من النفط يكفى حتى توقيع اتفاق جديد بأسعار جديدة، ويتوقع المسئولون البيلوروسيون توقيع الاتفاق عقب إجازات أعياد الميلاد فى روسيا التى تنتهى تقريباً فى منتصف يناير 2020. أما كيف بدأت الأزمة الحالية التى تعتبر الأكثر حدة بين البلدين، حيث لم تقدم روسيا على وقف تصدير النفط والغاز إلى بيلوروسيا فى أى فترة من فترات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. لكن يبدو أن تهديد الرئيس لوكاشينكو بأنه لن يوقع اتفاق التكامل مع روسيا، إذا لم تحل مشاكل النفط والغاز الروسيين المصدرين من روسيا، والذين تعتمد عليهما بيلوروسيا بالكامل، وفى 24 ديسمبر الماضى هدد الرئيس البيلوروسى بأنه سيبحث عن مصادر بديلة للنفط والغاز الروسيين، وأنه يفكر فى أخذ أثنين من ثلاثة أفرع لخط “الصداقة” من دول مجاورة، وفى هذه الحالة بدلاُ من أن كانت روسيا تصدر لأوروبا 60 مليون طن نفط، ستصدر فقط 20 مليونًا، وأضاف الزعيم البيلوروسى، أنه لم يخف عن روسيا أنه يبحث عن بدائل للنفط الروسى، وفيما يبدو أنه يأس من إيجاد حل مع روسيا، أضاف إنه فى كل الأحوال عليه أن يبحث عن بدائل، مفسراً ذلك بقوله، أنه يستطيع هذا من خلال بولندا كاشفاً عن أن البولنديين يقترحون سعر أرخص، ويمكن الحصول على نفط سعودى أو أمريكى من ميناء جدانسك البولندى سيكون أرخص، وتشغيل الخطوط المارة عبر الأراضى البيلوروسية فى الاتجاه العكسى، ثم كشف الرئيس البيلوروسى عن بقية خطته، عندما قال يمر عبر أراضى بيلوروسيا ثلاث خطوط “الصداقة” فى البداية سآخذ واحد منهم، ليعمل فى الاتجاه العكسى ويوصل النفط إلى المصافى الشمالية والجنوبية، لدينا اثنين من المصافى العملاقة، التى تم الانتهاء من تحديثها بالكامل. لم تكن لتمر تصريحات الرئيس البيلوروسى لوكاشينكو على المسئولين الروس مرور الكرام خاصة بعد ذكره للنفط الأمريكى، الذى يحاول فرض نفسه على السوق الأروبية كمنافس للنفط الروسى وتحصل عليه بولندا حالياً مستغنية بذلك عن النفط الروسى، فقد علق نيكولاى توكاريف، رئيس شركة ترانس نفط التى تدير خط الأنابيب، على تصريحات الرئيس البيلوروسى ووصفها بأنها سياسية، ومن الصعب للغاية تنفيذها مع الأخذ فى الاعتبار الأسعار العالمية للنفط، مشيراً إلى أن ما يفكر فيه الرئيس البيلوروسى سيعرض بلاده لارتفاع الاسعار الدائم مع ارتفاع أسعار النفط العالمية (روسيا توقع عقد التوريد لمدة عام بسعر ثابت). لكن المشكلة ظهرت عندما بدأت روسيا تتحدث عما أطلقت عليه “مناورة ضرائبية” وتتلخص فى إلغاء الضرائب أو الجمارك على تصدير النفط ومنتجاته، ورفع هذه الضرائب على استخراج الخامات المستخرجة من باطن الأرض كلها فى روسيا، بما فى ذلك النفط، هذا النظام سيبدأ العمل به بداية من عام 2024، وفى الوقت الذى كانت تحصل فيه بيلوروسيا على النفط الروسى بأسعار تفضيلية، إلا بيلوروسيا طلبت مناورة ضرائبية مثل تلك التى ستعوض بها الحكومة الروسية مصافى النفط عندها، أى تلغى ضرائب على التصدير وتزيد من ضرائب الاستخراج. فى واقع الأمر تبحث بيلوروسيا منذ فترة عن بديل للنفط الروسى، وبالفعل كانت هناك محاولات لاستيرد النفط من فنزويلا وإيران وأذربيجان، لكن تبين أن هذا النفط مرتفع الثمن بسبب طرق النقل المعقدة. وفى مايو عام 2019 طلب الرئيس البيلوروسى القيام بعمل خطة لنقل النفط من كازاخستان، لكنه حتى الآن لم يجد من حيث الجدوى أفضل من استيراد النفط الروسى. فى كل الأحوال ينصح بعض الخبراء الرئيس البيلوروسى، بالاستسلام للنفط الروسى، فحسب تاتيانا مانبنوك، الخبيرة بسوق الخامات، أنه ورغم المناورة الضرائبية المفترض تطبيقها عام 2024، فإن النفط الروسى المصدر إلى بيلوروسيا سيكون أرخص بنسبة 20% من النفط فى أى مكان فى العالم بالنسبة لبيلوروسيا، ومع حلول عام 2024 يمكن لمينسك البحث عن مصدر أخر للنفط. من المعروف أن بيلوروسيا كانت تشترى طن النفط بحوالى 400 دولار (أى 54,8 دولار للبرميل) فى حين أن روسيا كانت تبيع النفط نفسه من ماركة أورال فى العام الماضى للدول الأوروبية بسعر 63,5 دولار للبرميل. كما حصلت بيلوروسيا العام المنصرم على غاز من روسيا بسعر 127 دولار للألف متر مكعب (كان التصدير لأوروبا 200 دولار للألف متر مكعب) لكن بيلوروسيا أصرت على الحصول على الغاز ب70 دولار للألف متر مكعب وهو الذى السعر الذى تحصل به على الغاز مقاطعة سمولينسك الروسية، ويتوقع المراقبون أن يصل سعر الألف متر من الغاز هذا العام لبيلوروسيا حوالى 152 دولار. القضية هنا ليست تجارية وليست أسعار نفط أو غاز أو اتفاقيات بهذا الخصوص، لكن على ما يبدو وجد الرئيس البيلوروسى جارته وحليفته روسيا فى وضع صعب، فهناك عقوبات أوروبية وغربية بصفة عامة وأمريكية وأراد استغلال تحالفه وموقعه الجغرافى المهم، كما أن الغرب بدأ يفتح ذراعيه للرئيس لوكاشينكو ويتغاضى عن أخطاء فى منظومة الحكم، وبعد أن كان يطلق عليه آخر الديكتاتوريات فى أوروبا، استقبله الرئيس النمساى بحفاوة بالغة، فى جولة هى الأولى له فى أوروبا، وصار يضغط على روسيا من خلال الحديث عن استيراد النفط عن طريق بولندا، إحدى أشد الدول عداوة لروسيا فى الناتو حالياً وعضو حلف وارسو سابقاً، والتى ستدفع لواشنطن مقابل إنشاء قاعدة أمريكية على أراضيها تهدد روسيا، وهى أول من بدأ فى استيراد الغاز والنفط السعوديين والأمريكيين رغم ارتفاع سعرهما عن الروسيين. فى حين تريد روسيا توقيع اتفاقية تكامل مع بيلوروسيا، لإثبات أنها مازالت قوة جذب واستقطاب داخل الفضاء السوفيتى السابق، رغم النفور بينها وبين الغرب، فهل تضحى روسيا بمصالحها الاقتصادية من أجل المصالح السياسية، خاصة وأن لروسيا قاعدتين عسكريتين فى بيلوروسيا، ورغم أهميتهما حيث تعتبران رأس حربة متقدمة فى مواجهة حلف الناتو، كشف الرئيس البيلوروسى الكسندر لوكاشينكو فى حديث له لصحيفة موسكوفسكى كومسمولتس، إن بلاده لم تحصل على شئ مقابل مادى لقاء استضافة هذه القواعد من روسيا، ربما تناسى الرئيس البيلوروسى، الأسعار التفضيلية للنفط والغاز، إلا إذا كان لا يعتبرها مقابل القواعد. وهناك خشية من روسيا على بيلوروسيا من الذوبان فى الفضاء الأوروبى، خاصة بعد أن بدأت تظهر فى بيلوروسيا أجيال جديدة مؤمنة بالخيار الأوروبى، وإن كان صوتها خافت حتى الآن، إلا أنها فى حالة عدم قدرة الرئيس لوكاسينكو على الوفاء بالتزاماته الاجتماعية أمام شعبه قد يرتفع هذا الصوت وتفقد روسيا حليف وفى، حتى وإن كان الاحتفاظ به مرتفع الثمن. وهناك نقطة يجب عدم إغفالها، وهى أن بيلوروسيا ليس لديها قدرة على القطيعة مع موسكو، فإذا كانت أوكرانيا قد أقدمت على هذا بدعم أوروبى ومن الناتو والولايات المتحدة مسبق، فإن بيلوروسيا ليس لديها هذا الدعم، وقد يكون ثمن هذا الدعم فقدان الرئيس لوكاشينكو لمنصبه، إلا إذا كان الغرب سيصبر عليه نكاية فى موسكو.