وكلما عدت بالذاكرة إلى جلستنا الأولى فى بيت عبدالناصر بكوبرى القبة وإلى ما تلاها من جلسات، لم أزل أتذكر جيداً كيف كانت حرب فلسطين هى الجرح الحقيقي فى قلب كل منا.. عبدالناصر كان فى الفالوجا، حوصر، وصمد وفى خنادقها تفتحت مواهبه العسكرية والقيادية وبرز كضابط شجاع ووطنى قادر على الصمود والتضحية وعلى امتلاك رؤية استراتيجية صافية، فقد كان يرى ضرورة إيجاد سبيل للانسحاب من الفالوجا حتى لا تصبح القوات المصرية المحاصرة ورقة فى يد المفاوض الإسرائيلى. زكريا محيى الدين وصلاح سالم كانا هناك أيضاً فى الفالوجا. ذهبا مع قافلة تحمل طعاما وذحيرة للقوات المحاصرة وبقيا هناك. عبدالمنعم عبدالرؤوف وحسن فهمى عبدالمجيد وكمال الدين حسين تطوعوا للحرب فى فلسطين قبل دخول القوات المصرية، وسافروا مع كتيبة الجامعة العربية تحت قيادة أحمد عبدالعزيز.. وكان الجيش قد وضع تقليدا جديدا، وهو أن الضابط الذى يريد أن يتطوع فى حرب فلسطين يمكنه الحصول على إجازة مفتوحة وفور عودته يلتحق مرة أخرى بالقوات المسلحة. حماس دافق وأنا كنت فى إدارة التدريب الجامعى، وفى مناخ الحماس الدافق اتصلنا عن طريق قائدنا بالجامعة العربية التى تفاهمت مع قيادة الجيش، وتم الاتفاق على إقامة مركز تدريب للمتطوعين العرب فى هايكستب، وقد دربنا الكثيرين.. حوالى ثلاثة أو أربعة آلاف، كانت هناك كتيبتان من السعوديين أى ألف فرد تقريباً، وحوالى كتيبة من السودانيين، وفلسطينيين من النازحين تحت ضغط الإرهاب الصهيونى، دربناهم وأعيدوا للقتال فى فلسطين، كما كان هناك عدد من التونسيين. وأعددنا برنامج تدريب سريعاً يستغرق حوالى شهر، وقد شاركنى فى هذه المهمة عدد من الضباط الوطنيين. وكنت أواصل عملى أيضاً فى إدارة التدريب الجامعى، وكل صباح كنت ألتقى بالمظاهرات الطلابية الدافقة الحماس، والمستمرة بلا انقطاع، تهتف من الأعماق «فلسطين بايعناك، وبالأرواح نفديك» و«أين السلاح يا عزام؟» (وكان عبدالرحمن عزام باشا أمينا للجامعة العربية) و«أين حيفا يا عزام؟»، وأعترف أن هذه المظاهرات الطلابية المشحونة بالوطنية والحماس قد سيطرت على مشاعرى، ولعلها كانت أحد الأسباب التى باعدت وبحسم بينى وبين «ايسكرا» عندما أيد الشيوعيون قرار التقسيم، وسرى الحماس الدافق إلى قلبى لأفرغه فى عملية تدريب متواصلة وشاقة للمتطوعين العرب، الذين كانوا يتدربون هم أيضاً فى حماس مثير للدهشة وللحمية الوطنية أيضاً. هذا الحماس.. الذى جرفنا جميعاً معه فى تيار هادر ما لبث أن تحول إلى سخط. وكنا نحن الضباط الشبان الأكثر سخطا فى المجتمع، فالجرح أصابنا نحن، ونحن الذين واجهنا المحنة القاسية، وسهام العدو أصابت كرامتنا كأشخاص وكمؤسسة، فكيف لمجموعة من المتطوعين كنا نسميهم «العصابات الصهيونية» أن تهزم جيوش سبع دول هى بالضرورة أكثر عددا وأكثر تسليحا؟ كيف؟ ولماذا؟.. هذا هو السؤال الدامى والملح الذى اقتادنا كمجموعة من الضباط للبحث عن إجابة. كنا ومنذ البداية نعرف أن الجيش ليس لديه ذخيرة كافية، الوحدات لم يكن لديها سوى ذخيرة تكفى ليوم أو يومين على الأكثر.. لكن المسئولين عن البلد وعن الجيش وعن المأساة أكدوا أن لدينا كميات كبيرة من الذخيرة فى المخازن، ثم همسوا فى ادعاء ساذج ودهاء بأن الانجليز سوف يقدمون لنا ما نريد من سلاح وذخيرة. شكوك للريب ولم يحدث.. ولم يقتصر الأمر على نقص الذخيرة ولا حتى على قصة الأسلحة الفاسدة التى استخدمت فى اعتقادى كستار لإخفاء فساد نظام بأكمله، فالجيش كان خاويا فى أعماقه، ونقص الذخيرة أدى بالوحدات إلى القيام بعمليات «ضرب نار» للتدريب مرة واحدة فى العام، وهو بكل المعايير غير كاف على الإطلاق. فوق هذا كان التدريب القتالى مفتقدا، ولعله كان هناك تعمد لافتقاده، ولعلك عزيزى القارئ تدهش إذ تعلم أن الجيش المصرى قد ألقى به إلى أتون الحرب الفلسطينية ليس فقط بلا سلاح كاف ولا ذخيرة كافية، وليس فقط بسلاح فاسد وإنماً أيضاً وهذا هو المثير للدهشة والريبة معاً دون أن يقوم بأية مناورة للتدريب العملى طوال سنتين أو ثلاث سنوات سابقة على حرب 1948. وهكذا ألقى بالجيش إلى أتون حرب لم يكن مستعداً لها. دشن محصنة وفى الحرب البرية، حيث يكون العدو محصنا فى تحصينات ثابتة ومجهزة مسبقا كتلك التى كانت تحيط بالمستعمرات الإسرائيلية، فإن الجندى والضابط معاً يجب أن يكونا على أعلى درجات التدريب كى يمكنهما اقتحام هذه المواقع الحصينة. لقد ذهب الجنود والضباط إلى الحرب مشحونين بشحنات من الحماس الدافق والوطنية والرغبة الحقيقية فى التضحية، ولكنهم فوجئوا بالعدو وهو متمترس فى دشم محصنة، وأمام مثل هذه الدشم أنت بحاجة إلى قوة نيران عالية، ثم قدرة على المناورة، ثم الهجوم، لكن رجالنا افتقدوا قوة النيران والأسلحة الثقيلة، فهاجموا الدشم بالمدرعات الخفيفة وكانوا فريسة سهلة للإسرائيليين. إنها مسألة بسيطة، ولا تحتاج إلى عبقرية عسكرية، ويعرفها أى طالب مبتدئ فى الكلية الحربية، وهى أن قوة النيران العالية ضرورية لاقتحام المواقع الحصينة، وكل طالب فى الكلية الحربية يعرف أن نابليون هزم فى معركة «وترللو» لأن الانجليز استدرجوا فرسانه إلى الهجوم على مواقع المشاة المحصنة. وحتى هذه المعلومات الأولية لم تطبق فى هذه الحرب البائسة التى خرجنا منها جميعا ونحن فى حالة ثورة عارمة. لكن الناس تختلف عن بعضها البعض. فالبعض عاد من حرب فلسطين محبطًا، ومهزومًا فى أعماقه، والبعض عاد مشحونا بغضب عارم، ورغبة فى الانتقام لمصر التى أهينت، وللجيش الذى غرر به، وامتهنت كرامته. وفى جلستنا الأولى تحدثنا طويلاً عن الأسباب: حكومات الأقلية الخاضعة للملك والخاضعة للانجليز ضعيفة، لا تقاوم ولا ترفض طلبا لا للملك ولا للانجليز، ومن ثم خضعت، وأرسلت جيشنا ليهزم هزيمة دامية جارحة لكرامة كل مصرى وكل عربى. حكومات كهذه لا يمكنها أن تقدم شيئا للوطن أو للشعب، ولا يمكنها أن تكون قادرة على تحقيق مصر التى نحلم بها. لابد إذن من ديمقراطية حقيقية، ولابد من حزب يمثل أغلبية هذا الشعب ويعمل لصالحه، ويستمد من تمثيله للشعب ومن التصاقه بمصالحه القدرة على مواجهة الملك وعلى مواجهة السراى. والملك.. كان قد سقط تماما، ولابد من حزب يمثل أغلبية هذا الشعب ويعمل لصالحه، ويستمد من تمثيله للشعب ومن التصاقه بالمصالحه القدرة على مواجهة الملك وعلى مواجهة السراى. والملك.. كان قد سقط تماما، وكل رصيده الذى جمعه منذ 1936 وحتى 1942 وكل ولاء الضباط له، كل ذلك انتهى تماما على عتبات الأرض الفلسطينية، وتهاوى تحت طلقات المدافع هناك. النوايا الحسنة عند هذه الحدود توقفنا نحن أعضاء «الخلية الأولى». عندما كنا نتحدث عن الديمقراطية لم نكن نقصد شكلاً محدداً، وعندما تحدثنا عن حزب للأغلبية لم نكن نقصد حزبا بذاته، وكنا نتحدث عن النهوض بمصر وعن جيش قوى وعن تحقيق مطالب الشعب دون أن تتسلل إلى نقاشاتنا أية تفاصيل، ودون أن نشغل أنفسنا فى البحث عن أى منها. كنا ندرك أن أمامنا مسئولية ما للاسهام فى تحقيق ذلك، لكننا لم نسأل أنفسنا ما هى هذه المسئولية؟ وماذا يجب علينا أن نفعل تحديداً؟ لكننا أحسسنا أننا بحاجة إلى قوة ما، أو بالدقة أحسسنا أننا نمتلك نوايا حسنة وأحلاما طيبة للوطن والشعب والجيش، ولكننا بحاجة إلى «الاستقواء» بفريق منظم من الضباط يمكنه أن يفعل شيئاً ما لهذا الوطن. أقول هذا، وألح عليه، لأننى قرأت كتابات للبعض يحاولون فيها تقديمنا وكأننا كنا نمتلك الحكمة كل الحكمة، و«أننا أو أى منا.. قد وضع خطة معلومة الأهداف تمتد من خريف 1949 حيث عقدنا الجلسة الأولى للخلية الأولى، وحتى ليلة 23 يوليو حيث استولينا على السلطة، وهو ما لم يحدث مطلقاً. .. وفى الجلسة الأولى، ومنذ أن احتوتنا غرفة الصالون فى بيت عبدالناصر بكوبرى القبة، تولى جمال القيادة دون عناء ودون قرار منه أو منا. شك وتوجس كان الأعلى رتبة.. هو «بكباشى»، وكنا أقل منه رتبة، أنا كنت «يوزباشى»، وكمال الدين حسين كان «يوزباشى» ولكن أقدم منى، صحيح أن عبدالمنعم عبدالرءوف كان أقدم من جمال، لكن جمال كان صاحب الفكرة وصاحب الدعوة، وكان دوما ومنذ دخلنا معا الإخوان المسلمين هو الرافض لفكرة احتوائنا داخل الجماعة، والمدرك لأهمية وجود تنظيم مستقل لنا. وكان فكر عبدالناصر مرتبا فى هذه الجلسة الأولى، وسألنى فى البداية: طبعا عرفت حكاية إبراهيم عبدالهادى، فقلت: أيوه، ومن هذه الحكاية بدأ الحديث، والحقيقة أن عبدالناصر لم يتقبل بسهولة فكرة استدعائه لمقابلة رئيس الوزراء، وهو بطبيعته يميل إلى الشك والتوجس من الآخرين، فكيف يهتم رئيس الوزراء بموضوع كهذا والجميع يعرفون أن كتب الجيش متاحة ومتداولة، لابد أنهم يرتبون شيئاً لنا. من هذا الشك والتوجس اللذين لازماه دوما، بدأ عبدالناصر خطوته الأولى فى حديثه معنا، ثم سأل: إذا كنا قد هزمنا أمام مجموعات متطوعين من الإسرائيليين فكيف سنواجه الانجليز؟ وكيف سنحرر الوطن؟ ومن هذه النقطة انطلق إلى فكرة أن مصر بحاجة إلى قوة منظمة فى الجيش تكون قادرة على الدفاع عنها وعن استقلالها. إجراءات بسيطة .. لم يكن أى منا بحاجة إلى إقناع، كنا مقتنعين أصلاً، بل متلهفين على عمل أى شىء، واتفقنا، وأحاول أن أستعيد هذه اللحظات لأتذكر أننا وافقنا ببساطة.. أو بالدقة اتفقنا ببساطة، لم تكن ثمة طقوس كتلك التى مارسناها فى الإخوان، فنحن نعرف بعضنا البعض، ونثق فى بعضنا البعض. اتفقنا على أن نلتقى فى اجتماعات متقاربة، واتفقنا على أن يعمل كل منا فى سلاحه لتجميع عدد من الضباط. وكنا نحن الخمسة موزعين على أسلحة مختلفة: جمال.. مشاه، عبدالمنعم عبدالرءرف.. مشاة، كمال الدين حسين.. مدفعية، حسن إبراهيم.. طيران، وأنا.. فرسان. كنا خمسة وأكد عبدالناصر أن عبدالحكيم عامر معنا وإن لم يحضر، وقال انه لا يخفى عنه شيئاً.. وطبعاً تحدثنا عن أهمية الحيطة، وتداولنا فى بعض الاجراءات الأمنية البسيطة، والحقيقة أن جهاز أمن الجيش كان بسيطا هو أيضا، ومن ثم فقد قمنا بنشاطنا بكم من الحيطة يتلاءم مع بساطة أجهزة الأمن فى الجيش. وتقابلت مباشرة مع ثروت عكاشة، وكان معى فى الفرسان، لكنه كان منتدبا لإدارة التدريب الحربى، وأنا كنت أيضا بعيدا عن الفرسان فى إدارة التدريب الجامعى، وقد وافق ثروت على الانضمام لنا على الفور، وأحسست أن جمال كان قد أبلغه باجتماعنا، وبعدها اتصلت بعثمان فوزى وكان فى الخيالة وهى تابعة لسلاح الفرسان. وعثمان شيوعى قديم، وهو أول من أطلعنى على الأدبيات الماركسية، وقد ناقشنى طويلاً وسأل عن برنامج تنظيم «الضباط الأحرار»، قلت: ببساطة البرنامج هو تحرير مصر، وقال: إن هذا لا يكفى ولابد من تحديده، ولكننى أكدت أن الوقت غير مناسب للحديث التفصيلى عن مطالب اجتماعية أو أى شىء من هذا القبيل، وأن الهدف هو إقامة تنظيم وطنى فى القوات المسلحة، وعندما نصبح قوة يمكننا أن نقدم لمصر ولشعبها الحماية الكافية، وأبدى عثمان مخاوفه وتحفظاته من احتمال وجود رغبة لدى البعض فى حكم البلاد حكما عسكريا، وأكدت له أن هذا لا يخطر ببالنا، وبرغم تحفظاته فقد وافق على العمل معنا. وقد كان اتصالى بعثمان فوزى بداية للتوسع الحقيقى، فقد قام على الفور بتجنيد ثلاثة ضباط من سلاح الفرسان: فاروق توفيق، عفت عبدالحليم، وعثمان الكتبى.. ولابد من الإشارة هنا إلى أن عثمان فوزى قد تصرف بذكاء وأمانة فى آن واحد، فلم يحاول أن يدخل إلى التنظيم أى من الضباط الشيوعيين بل أتى بضباط وطنيين عاديين. «البقية .. العدد القادم» فكرة التوحيد ثم اتصلت بجمال منصور، وهو أيضا من الفرسان، وكان قد نقل معى إلى إدارة التدريب الجامعى، وبدأنا نقاشا مستفيضا عن أوضاع الوطن، وكنت أعرف قصة مجموعته القديمة.. فقال: أنا أتصل بالمجموعة ومتفق على الانضمام إليكم ونعمل تنظيما واحدا، وترددت إزاء فكرة توحيد المجموعتين معا.. وكنت أعرف أن جمال عبدالناصر هو أيضاً ضد هذه الفكرة، وفعلا قابلت جمال وعرضت عليه الأمر فرفض وقال : من يريد أن ينضم إلينا ينضم كفرد، وإلا ستأتي إلينا المجموعات الأخري كالحرس الحديدي ويطلبون الوحدة معنا وتبدأ خلافات داخلية ومشكلات وننتهي إلى الفشل0 علي أية حال استطعت أن أقنع جمال منصور بأن ينضم مع من يشاء إلينا، ولكن على أساس فردي0 وفعلا انضم جمال منصور إلى مجموعتي وانضم معه نصير وكفافى من مجموعته القديمة0 ثم أمكن ضم أمال المرصفي، كذلك قمت بضم سامي ترك وكان معي أنا وثروت عكاشة فى المنصورة عندما ذهبنا سنة 1946 لمواجهة المظاهرات، وعن طريق سامي ترك تعرفت باثنين من أهم الضباط الذين لعبوا دورا كبيرا فى بناء التنظيم فى سلاح الفرسان وفى ليلة 23 يوليو، وهما توفيق عبده إسماعيل وأحمد إبراهيم حمودة، والحقيقة أن علاقتي بتوفيق وحمودة كانت نقطة تحول حاسمة فى بنائنا التنظيمي فى سلاح الفرسان، وبهما أيضا أمكننا السيطرة على الآلاي الأول مدرع فى سلاح الفرسان. إصلاح الأحوال .. وهكذا أصبحنا قوة لا بأس بها فى وقت قياسي. ولعل هذه السرعة توضح أن الجيش وضباطه كانوا جاهزين لعمل شيء ما فى سبيل الوطن، وأن مجرد تقديم الفكرة كان كافيا لتحقيق تجمع جيد حولها. وطوال اليوم كنا نتحدث مع الضباط، ونجمع عنهم معلومات، ونختار أفضلهم لمفاتحتهم بهدوء وعبر نقاش هاديء عن الأوضاع وكيفية إصلاح الأحوال.. ومع كل تجاوب مني الضابط، نواصل الحديث حتي نتأكد تماما من إخلاصه وبعدها نفاتحه، والحقيقة أنني كنت ومنذ البداية قد استجمعت خبرة لا بأس بها فى كيفية التجنيد، وكيفية إجراء حوار استكشافى هاديء وممتد يمكنني من التعرف على طبيعة الضابط الذي أحاوره وهل هو صالح للمفاتحة أم لا، وقد استجمعت خبرتي هذه من خلال أحاديث طويلة مع حسن عزت عندما كان محبوسا عندنا فى القشلاق، ومن علاقتي المحدودة «بايسكرا».. وعلي العموم فقد كنت أهتم أولا بالمسلك الشخصي للضابط، هل يقرأ أم لا؟ هل يهتم بقضايا الوطن أم لا؟.. وكيف يقضي وقت فراغه؟ البعض كان يقضي هذا الوقت فى الرياضة أو القراءة أو الدراسة، وهؤلاء هم أول من أهتم بهم، والآخرون كانوا يقضون سهراتهم فى الكباريهات وما إلى ذلك وكنت أتجنبهم وأنصح المجموعات التابعة لي بتجنبهم، ولكن أهم مؤشر كنت أستند إليه فى تجنيب الضباط هو إخلاصهم وأداؤهم الجيد فى عملهم. لم يشوا بى وبرغم هذه الاحتياطات فلابد أن الكثيرين كانوا يلاحظون أسلوبي فى الكلام، وعلاقاتي بالضباط، وكما اكتشفني من قبل الطالب ياسر عرفات عندما قال: أنت تتحدث كالتقدميين.. اتضح لي بعد الثورة بفترة أن بعض الضباط كانوا قد اكتشفوني أيضا وإن لم يكونوا من الضباط الأحرار، لكنهم لم يشوا بي. فمثلا ضابط الفرسان حسني عيد كان رجلا وطنيا وشجاعا لكنني لم أفاتحه، وبعد الثورة قال لي وزملاء عديدون فى السلاح كانوا يحسون من تصرفاتي أنني ربما أكون مشتركا فى شيء ما، وأنني أعمل شيئا ما، وعندما وزع أول منشور للضباط الأحرار قالوا إنني بالقطع منهم. والمهم أننا وفى فترة وجيزة بدأنا فى إقامة تنظيم جيد فى سلاح الفرسان، ولم يكن لدينا فى السلاح لجنة قيادية وإنما كنت أتصل بالضباط بشكل فردي: جمال منصور معه مجموعته وهو مسئول عنها، عثمان فوزي وهو يتصل بمجموعته.. ومجموعة توفيق عبده إسماعيل وأحمد حمودة وسامي ترك، ثم مجموعة اليساريين من الفرسان: محمود المناسترلي ورفاقه. وكانت اجتماعاتنا فى الخلية الأولي التي أصبحت تسمي «لجنة القيادة» تتم أسبوعيا أو كل أسبوعين، وكان كل منا يتحدث – دون إفصاح عن الأسماء – عن الاتصالات التي قام بها ومن تم تجنيده من الضباط، وأحيانا كنت أحكي لجمال بشكل منفرد عن اتصالاتي، وعن الضباط الذين قمنا بتجنيدهم فى السلاح. أول منشور وبعد عدة اجتماعات كان لدينا تنظيم.. أنا معي فى الفرسان مجموعة لا بأس بها. وكمال الدين حسين فى المدفعية.. وحسن إبراهيم فى الطيران. الوحيد الذي لم يضم أحدا إلى التنظيم هو عبدالمنعم عبدالرءوف فقد كان معنا، لكنه كان مع الإخوان المسلمين بأكثر مما هو معنا، وكان مجهوده الأساسي مكرسا لهم وليس لنا، وربما ظل معنا بأمل أن يعيدنا إلى حظيرة الإخوان، أو أن يبقي كرأس حربة داخلنا لصالح الإخوان. وبدأت مجموعة جمال منصور تثير نقاشات حامية حول ضرورة عمل شيء عاجل وسريع، كانوا متحمسين ومتعجلين، وكنا هادئين وراغبين فى فسحة من الوقت نجمع فيها أكبر عدد من الضباط الوطنيين. وتحت إلحاح مجموعة جمال منصور – كفافى – نصير، قررنا إصدار أول منشور لنا، واستطاع جمال منصور أن يدبر لنا علاقة مع موظف بالسكة الحديد اسمه شوقي عزيز أبدي استعداده لكتابة المنشورات على الاستنسل، وقررنا شراء آلة رونيو، وكان ثمنها 80 جنيها، قررنا أن نجمعها فيما بيننا، وأتذكر أنني دفعت خمسة جنيهات، وجمعنا من ضباط الفرسان حوالي 35 جنيها، وتبرع جمال عبدالناصر والآخرون، والمهم أمكن تدبير المبلغ واشترينا الماكينة، لكن شراءها لم يكن سهلا، فلابد من إثبات شخصية المشتري، واقترح جمال منصور أن يشتريها صديقه شوقي عزيز باسمه ووافقنا. كنا فى خريف 1950 عندما قررنا أن نصدر منشورنا الأول، وتحملت مسئولية إصداره أمام مجموعة القيادة، كتب جمال منصور المسودة الأولي للمنشور وكان عنوانه «نداء وتحذير»، وكانت قضة الأسلحة الفاسدة تشغل كل الأذهان بعد أن تفجرت أخبارها على صفحات الصحف، وكان المنشور يحذر ضباط الجيش من أن يساقوا إلى حرب أخري دون استعداد ودون سلاح أو بأسلحة فاسدة، وحذر المنشور الملك من التدخل لمنع استمرار التحقيق العادل فى قضية الأسلحة الفاسدة، وإلا فإن عرشه سوف يصبح مهددا، طالعت الصيغة المقترحة وأبديت بعض الملاحظات عليها، وبعد تعديلها أخذتها إلى جمال عبدالناصر الذي وافق عليها بتعديلات بسيطة، وكان جمال منصور قد اقترح أن نوقع المنشور باسم «الضباط الأحرار» ووافقت على الاسم، كذلك وافق جمال عبدالناصر. تفجر وحيوية وأخيرا دق شوقي عزيز أولي كلمات المنشور الأول على الآلة الكاتبة.. وعندما دق عبارة التوقيع «الضباط الأحرار» كان يكتب – دون أن يعرف – بداية صفحة جديدة من تاريخ مصر الحديث. كانت الماكينة تعمل بكفاءة.. وكانت ماكينة التنظيم هي أيضا تعمل بكفاءة، كفافى وجمال منصور اشتريا طوابع البريد والأظرف، وثروت عكاشة أحضر عناوين منازل رئاسات الجيش، ونحن أحضرنا عناوين ضباط الفرسان، والآخرون أحضروا عناوين ضباط أسلحتهم، وكتبنا العناوين على الآلة الكاتبة وأضفنا إليها عناوين بعض السياسيين وعدد من الصحفيين، ثم قصصنا شرائط الورق الصغيرة التي تحمل العناوين، كل عنوان على حدة وألصقناه على ظرف، وقمت أنا وجمال منصور بوضع المنشور فى الأظرف ثم توزيعها على العديد من صناديق البريد فى القاهرة. .. يوم أو يومان وتفجرت الحيوية والمناقشات الدافقة فى الأسلحة والميسات، كان للمنشور فعل السحر وسط الضباط، الكثيرون بدأوا يتدفقون حماسا ويسألون عن «الضباط الأحرار» وكانت المناقشات حول المنشور بداية لحملة تجنيد وسط الجيش، والأهم من هذا أنها حددت لنا وبوضوح مواقف العديد من الضباط. خطوة للأمام كل ما طبعناه كان خمسمائة أو ستمائة ورقة فيما أذكر، لكنها سطرت بداية جديدة لعملنا ونشاطنا، بل أدت إلى إحالة الفريق حيدر والفريق عثمان المهدي إلى المعاش. وعندما طبعنا المنشور الأول كان عددنا قد وصل إلى حوالي أربعين أو خمسين ضابطا، منهم حوالي 13 أو 14 تحت مسئوليتي فى سلاح الفرسان، لكن المنشور الأول دفع بنا خطوات كبيرة إلى الأمام، وحققنا نفوذا واسعا، وعضوية أوسع. .. ومع هذا النجاح الباهر قررنا أن نصدر المنشور الثاني، وأيضا كتبه جمال منصور وأخذته أنا إلى جمال عبدالناصر ووافق عليه، وكتبه شوقي عزيز وطبعناه، لكن الأمن كان يتربص بنا.. وصدرت التعليمات لأجهزة البريد باحتجاز أية رسائل تحمل عناوين مكتوبة بالآلة الكاتبة وموجهة إلى ضباط بالجيش، وبالفعل تم احتجاز معظم الرسائل ولم يصل منها إلا عدد محدود. وقد علمنا على الفور بذلك، ثروت عكاشة تلقي هذه المعلومة من صهره أحمد أبوالفتح رئىس تحرير «المصري» وأبلغها لي، كنا نغلي غضبا، وأحسسنا بروح عاتية من التحدي، كان قد تبقي لدينا حوالي خمسين نسخة من المنشور وزعناها على الضباط الذين قاموا بدورهم بتوزيعها فى الميسات وفى دورات المياه فى القشلاقات وفى المكاتب الإدارية فأحدثت دويا هي الأخري. .. لكن الأمر تطلب منا أن نعيد حساباتنا، وقررنا أن ننقل «الرونيو» من عند شوقي عزيز. وهنا أود أن أتوقف قليلا لأتحدث عن رحلة آلة الرونيو هذه. فلقد تحدث الكثيرون عن هذه «الآلة» وجرت مساجلات عديدة حول من الذين احتضنها وأخفاها فى بيته متحملا مخاطر جسيمة.. والحقيقة أن القليلين هم الذين عرفوا تفاصيل هذه الرحلة، والبعض علم بجزء منها وقرر أن ما يعرفه هو كل الحقيقة، بينما هو مجرد جزء منها. فمن بيت شوقي عزيز انتقلت الماكينة إلى بيت جديد. حسن إبراهيم رشح لنا بيت ضابط طيران هو عبدالرحمن عنان وكان أعزب ومنضبطا، وحياته منظمة تنظيما دقيقا، وتقديراته الأمنية عالية، ومن هنا كان الاختيار جيدا وملائما. جهاز حدتو ثم واصلت الآلة رحلتها. بعد فترة اقترح جما عبدالناصر أن ننقل الماكينة إلى بيت حمدي عبيد، وكان أيضا أعزب ولكن لم يكن معروفا كسياسي، أو حتي مهتما بالسياسة، بل كان ضابطا مرحا خفيف الدم، أو كما يسمونه «ابن نكتة» ومن هنا رأي جمال – وكان على صواب – أن بيته لا يثير أية شبهات. وبعد أن تصاعدت حدة الموقف، وتزايد الخطر، انتقل الرونيو مرة أخري لتتسلمه منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني «حدتو».. ليعمل عندها وتطبق عليه منشوراتنا حتي قيام الثورة. وقبلها بفترة كان شوقي عزيز قد توقف عن الكتابة على الآلة الكاتبة، وتطوع أحمد فؤاد ليكتب لنا المنشورات، قال إنه سيكتبها على الآلة الكاتبة الموجودة فى مبني النيابة العامة، ولكن عرفت فيما بعد أنه كان يكتبها فى الجهاز الفني لمنظمة حدتو. والحقيقة أن علاقة أحمد فؤاد بنا كانت قد توثقت إلى حد كبير، وقد أعجب به عبدالناصر إعجابا شديدا، وبهر إلى حد كبير بمعلوماته الواسعة وتحليلاته السياسية المتقنة، وباختصار كان عبدالناصر أمام مثقف واسع الاطلاع، حلو الحديث، يقدم إليه تحليلات سياسية جيدة، ويشغل منصبا مرموقا فهو قاض، وليس كالرفيق بدر ميكانيكا. كان «بدر» «سيد سليمان رفاعي» يتمتع بكل ميزات أحمد فؤاد بل ويتفوق عليه.. فهو فى نهاية الأمر السكرتير العام لمنظمة حدتو التي يعمل أحمد فؤاد واحدا من كوادرها.. لكن أحمد فؤاد قاض وسيد سليمان رفاعي ميكانيكي. واختار عبدالناصر أن يمنح إعجابه للقاضي أحمد فؤاد. وهكذا توثقت العلاقة ب «حدتو» عن طريق علاقة وثيقة ومستديمة بيني أنا وعبدالناصر وبين أحمد فؤاد.. وكثيرا ما كان عبدالناصر يلتقي منفردا بأحمد فؤاد ويجري معه مناقشات طويلة حول الموقف السياسي المحلي والدولي، لكنه أبدا لم يفكر فى الانضمام إلى «حدتو». وعن طريق هذه العلاقة احتضنت منظمة حدتو باهتمام بالغ كل الاحتياجات الفنية للضباط الأحرار، سواء الكتابة على الآلة الكاتبة أو الطباعة أو توزيع المنشورات. فبعد مصادرة الأمن للمنشور الثاني والثالث تطلب الأمر كتابة العناوين على الأظرف بخط اليد، والكتابة بخط اليد مسألة خطرة لأنها دليل تأخذ به المحاكم.. وخبير الخطوط قادر على مضاهاة الخطوط وتحديد كاتبها وفقا للعينات المقدمة إليه، وكان من الطبيعي أن نحذر من كتابة العناوين بخطنا فإن أية شبهة تحيط بنا يمكن أن توقعنا فى أيدي جهات الأمن. وتحدثت مع أحمد فؤاد فى هذه المشكلة، وبعد عدة أيام أبلغني أن الضباط اليساريين أعضاء «حدتو» الذين انضموا إلى «الضباط الأحرار» يعرضون تطوعهم للقيام بهذه المهمة الخطرة وهي كتابة العناوين على الأظرف بخط أيديهم، وأذكر من المتطوعين محمود المناسترلي وصلاح السحرتي وأحمد قدري وجمال علام، والأخير كان من سلاح الصيانة، وقد تولي هؤلاء أيضا توزيع الأظرف على صناديق البريد. وهكذا أمكن للمنشورات أن تنتظم.. وأن تتواصل، وأن تصل إلى جموع الضباط. وفى هذه الأثناء تواصلت اجتماعات مجموعة القيادة، كنا نجتمع ليقدم كل منا تقريرا عن نشاطه وعن التجنيد الجديد دون إفصاح عن الأسماء. وكنا نجري مناقشات فى الوضع السياسي، وعندما جرت الانتخابات فى مطلع عام 1950 توقعنا أن يفوز الوفد، لكننا أصبنا بإحباط بعد فوزه فقد كنا نتصور أنه سيقف فى مواجهة الملك والاحتلال، فإذا به يتحاشي الاصطدام بالقصر الملكي، وعلل البعض ذلك بأنها سياسة جديدة صاحبها فؤاد باشا سراج الدين تقوم على أساس أن الوفد قد ظل لفترة طويلة بعيدا عن الحكم بما أضر بأنصاره ومصالحهم ضررا بالغا، ولهذا انتهج الوفد سياسة تحاشي الاصطدام بالملك. وكانت هناك أحداث خطيرة وفضائح مثل «كورنر القطن»، وفضيحة الأسلحة الفاسدة التي فجرها إحسان عبدالقدوس على صفحات روزاليوسف. كانت المناقشات تدور حول هذه الأحداث، وتستقر بنا عند يقين بعدم إمكانية الثقة فى هذه القوي السياسية وعدم قدرتها على تقديم حل حقيقي لمشكلات الوطن ومشكلات الشعب. وأحسسنا أن ثمة شيئا منوطا بنا أن نفعله نحن، نحن وليس غيرنا.