مناضلون يساريون محمود المناسترلي كنت ضابطا في السجن الحربي، وكلفت من قيادة ثورة يوليو أن استعد لاستقبال الضباط أعداء الثورة. وبعدها بفترة وعندما انقلب عبد الناصر علي حلفاء من الأمس من الشيوعييين. أخذوا مني مفتاح الزنازين وادخلوني في زنزانة واغلقوا الباب علي. وهكذا تحولت من سجان إلي سجين. محمود المناسترلي (في حواري معه) عندما أتي محمد علي باشا إلي مصر، أتي معه عدد من الضباط لعل أشهرهم كان حسن باشا المناسترلي الذي أصبح واحدا من صناع العسكرية المصرية، وأصبح بالضرورة كقائد كبير في جيش الوالي مالكا كبيرا وارستقراطيا مرموقا. ويتوالي مسلسل العسكرية في الأسرة فابن حسن باشا هو محمود فؤاد بك المناسترلي ويتمرد الحفيد محمد بك كمال المانسترلي علي النزعة العسكرية، فقد تغلبت عليه نزعات رومانسية دفينة. تخرج في مدرسة الزراعة العليا ولم يتوظف فالأصل ألا يتوظف الارستقراطيون ليعملوا في مكان واحد مع ابناء الفلاحين واكتفي كمال بك بالعناية بزهور حديقة القصر الرائع الذي يعيش فيه والمتربع حتي الآن في أجمل بقعة من نيل القاهرة عند مقياس الروضة وأمضي وقته بين زهوره والعزف علي العود والرسم والقراءة فكان وباختصار ارستقراطيا حقا . أما الابن محمود فيمرح في ربوع هذا القصر الفخم ويدخل المدرسة الناصرية مدرسة ابناء الذوات في هذا العصر. وتصاب الأم بالربو ونصح الأطباء بأن تعيش في حلوان حيث الجو جافا، وفي مدرسة حلوان الثانوية التقي محمود ارستقراطيا آخر هو أبو بكر حمدي سيف النصر ابن وزير الحربية وهو ايضا من اصل تركي يقترب من الاسرة المالكة. والطالب محمود يعيش كأي ارستقراطي خلي البال يلعب الهوكي والملاكمة وكرة القدم ثم يهوي بعد ذلك جمع طوابع البريد وتربية العصافير الملونة، وعندما حصل علي شهادة الثقافة وطلبت الكلية دفعة استثنائية بشهادة الثقافة وقبل علي الفور فجره مؤسس المؤسسة العسكرية ووضعه الارستقراطي يرشحه وهو رياضي مرموق وفوق هذا وذاك هو وساطة حمدي باشا سيف النصر وزير الحربية، ويتفوق محمود في الكلية ويتخرج ويكون ترتيبه علي الدفعة ويوزع علي السلاح الذي اعتاد أن يضم ابناء الارستقراطية «سلاح الفرسان» وتأتي حرب فلسطين فيحارب بشجاعة لفتت إليه الانظار لكنه عاد ككثير من ضباط الجيش ممتلئا غيظا وسخطا علي فساد الأسلحة وفساد القيادات وفساد التخطيط العسكري. وأصبح وضعه قلقا فلا الهوكي يغريه ولا زي الفرسان المغري يستهويه، أما وضعه الارستقراطي فقد أصبح عبئا عليه، وفيما هو مغلف بالحيرة أتاه صديق العمر أبو بكر حمدي سيف النصر بمصباح علاء الدين. جلسا معا جلسات طويلة حيث عرض عليه فكرا جديدا ورؤية جديدة لمستقبل مصر وشعبها وحلولا مقنعة للمشكلات الاجتماعية، حتي فساد الأسلحة وفساد القيادات العسكرية وعجزها فك طلاسمه ونسبه إلي نظام اجتماعي فاسد بأكمله، وباختصار أصبح سليل الارستقراطية العريقة اليوزباشي محمود المناسترلي شيوعيا وعضوا في قسم الجيش التابع لمنظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) وحافظ محمود علي هذا السر فوضعه كضابط وصرامته العسكرية التي ورثها عن أجداده فرضت عليه أن يخفي سره حتي علي زوجته خالد (ابنة خالته وحبيبته منذ فجر الشباب) وحتي علي أخيه ابراهيم الذي يعرف الجميع إنه كادر أساسي في حدتو. ويبقي العسكري عسكريا صدر له قرار بأن ينضم إلي تنظيم الضباط الأحرار والاجابة تماما يا افندم، وانضم إلي مجموعة الفرسان تحت قيادة خالد محيي الدين. وفي أحد الاجتماعات عرض خالد محيي الدين مشكلة وهي أن منشورات الضباط الأحرار التي كانت ترسل بالبريد إلي ضباط الجيش في مختلف الأسلحة كان الأمن يصادرها فقد اكتشف أن العناوين تكتب بالآلة الكاتبة تلافيا لأن يتعرف خبير الخطوط علي اسماء الضباط الذين كتبوا العناوين والمطلوب هو أن يتطوع ضابط غير معروف بانتمائه للاحرار بكتابة العناوين بخطه وتطوع محمود واثنان من الضباط الشيوعيين ، وكانت المهمة خطيرة لكن اليوزباشي كان يفيض حماسا وجرأة. ثم يكلف من حدتو بالحصول علي أسلحة وذخيرة تحتاجها كتائب «الأنصار» التي شكلها التنظيم للقتال في منطقة القنال ضد الاحتلال عقب إلغاء معاهدة 1936، ثم طلب منه تدريب الرفاق في كتائب الانصار وفعل كل ذلك بكفاءة وحماس وسرية تامة. وتأتي ليلة 23 يوليو (1952) وهو ضابط في السجن الحربي ويكلف من قيادة الثورة بتأمين السجن استعدادا لاستقبال أعداء الثورة، ثم تتراكم مساحات التباعد بين حدتو وثوار يوليو. اعدام خميس والبقري، القبض علي عدد من الرفاق، ويفاجأ محمود برفاق من قيادة حدتو في زنازين السجن الذي يقوم بالعمل فيه وفكر في أن يستقيل أو أن يطلب نقله لكن امرا من القيادة الحزبية أتاه بالبقاء ليكون همزة وصل بين الرفاق المسجونين عنده ورفاق الخارج. وتأتي هبة مارس 1954 ويقف مع ضباط الفرسان تحت قيادة خالد محيي الدين ويجاهر بمساندته لهم ضد مجموعة جمال عبد الناصر، وعندما يمسك عبد الناصر بزمام الأمور يصدر قرارا بإحالة اليوزباشي محمود المناسترلي إلي الاستيداع، ثم أخذوا منه مفتاح زنازين السجن الحربي ووضعوه في واحدة منها، وأصبح سجينا لكن اصدقاءه الضباط يغضبون فيتقرر تحديد اقامته في بيته وهنا فقط عرفت خالد واخوه ابراهيم أن محمود شيوعي، وكان معاش محمود 28 جنيها وبها كان يتعين أن يعيش الارستقراطي، ورفض محمود بكبرياء أن يطلب عملا كما فعل ضباط كثيرون اصبحوا سفراء أو كبار موظفين ورفض بكبرياء أن يتدخل أي انسان ليطلب له ذلك، ويأتي العدوان الثلاثي (1956) ويتولي قيادة المتطوعين زميل قديم في الجيش هو كمال رفعت ويرتدي محمود الكاكي من جديد، وفي طويحر أمام محمود وزملائه معسكرا ليحموا بوابة مصر أمام أي عدوان يأتي من المحتلين في بورسعيد أو المحتلين في سيناء. وينتهي العدوان فيخلع الكاكي ويعود ليمارس نشاطه السري. وفي 1959 يقبض عليه ويقدم مع عديد من الرفاق أمام محكمة عسكرية، استشعر ضباط المحكمة الحرج فهم أمام زميل لهم، شارك في صنع الثورة وشارك في صد عدوان 1956 وهو يتحدي كل شيء بكبرياء وشجاعة ومع ذلك حكموا عليه بالسجن ثماني سنوات اشغال شاقة. واستشعر عبد الناصر الحرج أمام بقية الضباط الأحرار فلم يصدق علي الحكم ثم أفرج عنه بعفو صحي. هو الآن خارج السجن مرة أخري ومرة أخري يلتقي زملاء العمل من الضباط الاحرار كمال رفعت- الجبار- صلاح زعزوع وغيرهم، كانوا يتولون مواقع مهمة ويلحون عليه في أن يكتب لعبد الناصر طالبا وظيفة أو علي الأقل زيادة المعاش ويرفض. ويظل يبيع ما ورثه قطعة قطعة ليعيش في مستوي يغيظ به عبد الناصر. وعندما يؤسس خالد محيي الدين المجلس المصري للسلام يعمل معه محمود بكفاءة وإخلاص. وفي عام 1964 يفرج عن الشيوعيين ويتقرر توظيفهم ويجدها كمال رفعت فرصة لإحراج عبد الناصر نحن نوظف الشيوعيين فلماذا لا نوظف زميلنا في الضباط الأحرار؟ ويعين محمود في شركة العبوات الدوائية. وتمضي الأيام والفارس يسهم بإخلاص وحماس في المجلس المصري للسلام ويعيش علي الدوام حلم الاشتراكية الجميل، وعندما يقع الزلزال الاشتراكي وتدخل الاشتراكية في محنة انهيار الاتحاد السوفيتي يغلفه حزن عميق لم ينقطع. كان دوما مبتسما فاختفت الابتسامة، وكان قادرا علي أن يتغلب علي الحزن لكنه هذه المرة أراد وعن تصميم للحزن أن يهزمه. ورحل محمود المناسترلي وهو لم يزل يحلم بأن يسترد حلمه الجميل، الاشتراكية.