انتهت هذا الأسبوع فعاليات المؤتمر العلمي الرابع عشر للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، لمناقشة أهداف التنمية المستدامة فى مواجهة الأوضاع العربية بعد 2011، وفرص النمو وتحديات العدالة الاجتماعية فى ضوء تعثر تجربة التعاون الاقتصادي العربي. أكد الدكتور جودة عبد الخالق، وزير التموين الأسبق وأستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن السياسة الاقتصادية فى مصر عادت مرة أخرى وبقوة إلى تبنى النموذج النيوليبرالى، وذلك انعكاس لبرنامج الحكومة للإصلاح الإقتصادى الذي أعلنته فى مارس 2016، والسياسات التي تضمنها الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي فى نوفمبر 2016،مبينا أن النتائج بعد مرور عام على تطبيق الاتفاق، تشير إلى أن الإجراءات التي تضمنها وأهمها تعويم الجنيه، كان لها تأثير سلبي حاد على العدالة الاجتماعية. شبكات الحماية وأوضح د. جودة أن النموذج النيوليبرالى هو الجيل الثاني من الليبرالية الاقتصادية كما بلورها آدم سميث فى شعار " دعه يعمل.. دعه يمر"، و فصلها فى كتابه الصادر عام 1776 "بحث فى طبيعة وأسباب ثروة الأمم "، فالنموذج يركز على تعظيم النمو الاقتصادى من خلال حرية الأسواق وتقليص دور الدولة و تخفيض الضرائب وزيادة الانفتاح على الخارج، وغياب العدالة الاجتماعية، وفى محاولة للتخفيف من وطأة النتائج السلبية لهذا النموذج، يتم اللجوء إلى شبكات الحماية الاجتماعية، وبالتالي زيادة الضغوط على المالية العامة، فالنيوليبرالية فى حقيقتها أقرب إلى العقيدة السياسية منها إلى النظرية الاقتصادية. وتابع أن الدول العربية منذ التسعينيات من القرن الماضي، قامت بتبني وتطبيق برامج "الإصلاح الإقتصادى"، وكان الأساس الفكري لتلك البرامج هو النموذج النيوليبرالى، الذي يركز على تعظيم النمو الإقتصادى من خلال حرية الأسواق وتقليص دور الدولة وتخفيض الضرائب وزيادة الانفتاح على الخارج، مشددا أن قضية الفقر والعدالة لم تشغل بال المروجين لهذا النموذج، لاعتقادهم الراسخ أن ثمار النمو ستتساقط كالمن والسلوى وأن الرخاء سيصيب الجميع فى نهاية المطاف، لكن التجربة أثبتت عكس ذلك، فبدلا من المن والسلوى كانت النتيجة سقط المتاع، حيث أتسع نطاق الفقر،وارتفعت معدلات البطالة وزادت اللامساواة،فكانت العدالة الاجتماعية هي الضحية. الحماية الاجتماعية وأوضح أنه نتيجة لغياب العدالة الاجتماعية، تم توسيع شبكات الحماية الاجتماعية، فيما يعتبر صفقة سياسية برجماتية، وقد تبدو هذه الصفقة صفقة رشيدة بالمعنى السياسي، ولكنها ليست كذلك بالمفهوم الإقتصادى الإجتماعى، كما أنها غير قابلة للاستدامة بالنظر إلى تكلفتها المالية، مبينا أن الحماية الاجتماعية لضحايا السياسات النيوليبرالية تثير مشكلة وإشكالية،وهى إمكانية تمويل الإنفاق الكافى فى ظل القيد المالي الذي يفرضه النموذج النيوليبرالى نفسه، مما يقلل فرص استدامة هذا العلاج، أما الإشكالية فهي استحالة المقارنة بين مغانم المستفيدين من السياسات المرتكزة على النموذج النيوليبرالى ومغارم المتضررين من تلك السياسات، فلا معنى لتطبيق سياسات تنتج فقرا و بؤسا ثم تخترع برامج لتخفيف فقر الفقراء و تقليل بؤس البؤساء. الآثار السلبية وأضاف د. جودة أن الورقة المقدمة للمؤتمر العلمي الرابع عشر للجمعية العربية للبحوث الاقتصادية،تتضمن مقاربة مختلفة عن المقاربة النيوليبرالية، حيث إنها تقوم على تضمين العدالة الاجتماعية وما يتصل بها من جوانب التنمية البشرية فى عملية صنع السياسة الاقتصادية، وستكون الإشارة إلى العالم العربي، بالتركيز على حالة مصر واستنادا إلى تجربة مصر خلال ال 10،15 سنة الأخيرة، وأنه من الأفضل تجنب الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية، بوضع العدالة الاجتماعية فى صلب عملية تصميم وتطبيق السياسات العامة، فتضمين العدالة الاجتماعية كجزء لا يتجزأ من تصميم السياسة الاقتصادية، بدلا من التركيز على استهداف أسرع معدل نمو ثم مد شبكات الحماية الاجتماعية للتعامل مع مخلفاته الخبيثة من بطالة وفقر و اللامساواة. ولفت إلى زيادة اللجوء إلى شبكات وبرامج الحماية الاجتماعية فى عدد كبير من الدول منذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، على خلفية الاتجاه العالمي لتطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية فى إطار اتفاقات تثبيت وتكيف هيكلي بإشراف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فحوالي 1.9 مليار شخص يعيشون فى 136 دولة يستفيدون من برامج شبكات الحماية الاجتماعية، وحوالي ثلث فقراء العالم فقط،هم الذين يحظون بتغطية برامج الحماية الاجتماعية، ولكن نسبة من يتمتعون بتلك التغطية تقل كثيرا عن الثلث فى إفريقيا جنوب الصحراء و جنوب أسيا، وأيضا ساعدت برامج وشبكات الحماية الاجتماعية على تخفيض فجوة الفقر بحوالي 15%. تقليص دور الدولة فالنظام الإقتصادى الذي تبنته غالبية الدول العربية هو نظام رأسمالية الدولة المرتكز على سياسات جوهرها اقتناص وتوزيع الريع، و تحت مسمى " الإصلاح الإقتصادى"، طبقت عدة دول عربية، منها مصر وتونس والمغرب وسوريا واليمن والسودان والأردن منذ الثمانينيات من القرن الماضي،سواء باتفاق رسمي مع البنك الدولي و صندوق النقد الدولي أو بدون اتفاق، العديد من الإجراءات، شملت، " تقليص دور الدولة،الخصخصة، تحرير الأسعار، تحرير التجارة، زيادة الضرائب غير المباشرة، تخفيض الدعم، تخفيض الإنفاق العام، احتواء الأجور"، وكل هذه الإجراءات لإعادة صياغة النظام والهيكل الإقتصادى،بما يتوافق مع النموذج النيوليبرالى.. وتابع أنه بالربط بين السياسات النيوليبرالية وارتفاع معدل البطالة فى هذه البلاد، ففى الجزائر، معدل البطالة خلال عام " 2016- 2017 " هو 10.5 %،بينما الأردن وصل بها ل 15.5%، ومصر وصل بها ل 12.4%، أما حالة فلسطين، التي يصل فيها معدل البطالة إلى 25.7 %، فلا يعود سبب ارتفاع معدل البطالة فيها إلى السياسات الاقتصادية بقدر ما يعود إلى ظروف احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية وحصارها ونهب مواردها.. أما مصر فبعد ثورة 25 يناير 2011، زاد معدل الفقر بالتوازي مع تسارع نمو الناتج المحلى الإجمالي خلال الفترة من 2002 وحتى 2010،فتراجع نصيب الأجور فى الناتج من 28 % فى المتوسط خلال" 2000 2003،إلى 25% فى 2010، وارتفع معدل البطالة من 9% فى بداية الألفية إلى 12.5 % فى 2012، كما زاد معدل الفقر فى الريف بدرجة كبيرة،خاصة فى الوجه القبلي، ففى محافظة أسيوط يصل معدل الفقر إلى 58%، وأيضا زادت الفوارق الجهوية فى فرص التعليم و الرعاية الصحية و الوظائف، بالإضافة إلى تراجع الاهتمام بالزراعة، حيث هبط نصيب القطاع من الاستثمارات من 9.4 % فى 2002/2003 إلى 2.9 % فى 2009/2010. تصحيح المسار أما فيما يخص أثر الحكم الرشيد على النمو الاقتصادي، فقال الدكتور على عبد الوهاب نجا، أستاذ الاقتصاد بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بالإسكندرية، خلال المؤتمر أن دراسة الحكم الرشيد وأثره على المتغيرات الاقتصادية الكلية وبخاصة النمو الاقتصادي، والتنمية الاقتصادية من الدراسات الحديثة نسبيا، وقد ازداد الاهتمام به فى الآونة الأخيرة مع زيادة الاهتمام بالاقتصاد المؤسسي، وبخاصة ما يتعلق منه بالحكم الرشيد وأهميته فى التأثير على عديد من المتغيرات الاقتصادية الكلية من ناحية والتطور فى مؤشرات الحكم العالمية. وأضاف أن مصر وتونس مثل معظم الدول النامية تعانى من حكومات استبدادية منذ عهد الاستعمار، حتى بعد حصولهما على الاستقلال، غير أنه استمر الحال على ما هو عليه، بل ازدادت الأمور سوءا فى العقود الثلاثة الماضية، نتيجة لعدم كفاءة الحكومة وضعف الإدارة الاقتصادية وغياب القانون وتفشي الفساد على كل المستويات وضياع الحقوق و اختفاء العدالة الاجتماعية، مما أنعكس سلبا على عمليات التنمية الاقتصادية بصفة عامة وفى تدني معدلات النمو الاقتصادي بصفة خاصة ومثلت هذه الأسباب الدوافع الأساسية لقيام ثورة 17 ديسمبر 2010 فى تونس، و ثورة 25 يناير 2011 فى مصر، الأمر الذي يتطلب تصحيح ذلك المسار فى الوقت الراهن. وتابع أنه بعد الثورتين بمصر وتونس انخفض مستوى الحكم بهما، وإن كان الوضع أفضل نسبيا فى حالة تونس مقارنة بمصر، حيث أن متوسط قيم كل المؤشرات خلال الفترة من " 1995 _ 2015 " فى مصر كانت أقل من 50 نقطة بكثير باستثناء مؤشر سيادة القانون فى عقد التسعينيات والعقد الأول بالألفية الثالثة، بينما فى تونس معظم المؤشرات تجاوزت 50 نقطة باستثناء المؤشرات المعبرة عن البعد السياسي وهما التصويت والمساءلة والاستقرار السياسي، فضلا عن تراجعه عبر الزمن، بل وتدهوره خلال أحداث الثورة بكل منهما وإن كان بصورة أكبر فى مصر مقارنة بتونس، وانعكس ذلك فى انخفاض معدل النمو الاقتصادي بهما وتراجعه عبر الزمن وبدرجة أكبر فى مصر مقارنة بتونس.