قضية للمناقشة كتبت فريدة النقاش أصدر الفيلسوف والمفكر الفرنسى "بيير بورديو" قبل أن يغادر عالمنا بسنوات قليلة- كتابه الموسوعى "بؤس العالم" فى ثلاثة أجزاء تأسس الكتاب على مقابلات موسعة وعميقة مع أفراد وعائلات من المهاجرين – غالبيتهم من عرب شمال أفريقيا – والذين تكتظ بهم الأحياء الطرفية والفقيرة فى المدن الفرنسية، وما نسميه نحن بالعشوائيات مع الفارق. مشروع الباحث وعالم الاجتماع "بورديو" مع فريق من زملائه وتلاميذه الذين تعاونوا معه فى إجراء المقابلات.. شرع فى تحليل النتائج التى توصلوا إليها مبكرًا جدًا قبل أن تنفجر ظاهرة الإرهاب فى أوروبا والتى وصلت إلى عدد من العواصم وكان لفرنسا منها نصيب كبير فى السنوات الأخيرة، بعد أن تجسدت فى منظمات عديدة أخذت تدمر الوطن العربى تدميرا. بين كل من التحايل وواقع الممارسة أن مثل هذه الأحياء "العشوائية" بسكانها الذين لفظهم مجتمع الاستهلاك، وطردتهم المدارس والجامعات من جناتها المزعومة، كانت هى البيئة الحاضنة والملائمة تماما للتكوين النفسى والاجتماعى المعادى لمجتمعات الغرب التى وصمت هؤلاء وتعالت عليهم، وكأنما تدفع بهم دفعا إلى الجماعات الإرهابية التى تنشط أفكارها فى هذه الأحياء. ويقدم الانخراط فى هذه الجماعات إشباعًا وهميًا لهؤلاء الشباب الضائعين، والذين يعانون من العزلة المجتمعية والفراغ الروحى فى ظل غموض المستقبل، واتساع الفجوة بينهم وبين المجتمعات التى هاجروا إليها بعد أن انهارت مجتمعاتهم الأصلية، رغم أن بعضهم ينتمى إلى الجيل الثاني، وربما الثالث من المهاجرين كما تكشف لنا بعض الحالات التى قامت مؤخرًا بتنفيذ عمليات إرهابية بشعة فى كل من بروكسل وباريس. تضمن "بؤس العالم" عودة قوية إلى جذر المسألة، ورغم أن العمليات الإرهابية باسم الإسلام فى أوروبا لم تكن موضوعة، لكن الطريق الذى أضاءه لنا يصل مباشرة إلى موضوع الإرهاب. الانقسام الطبقى المتزايد فى العالم كله هو إذن جذر المسألة، إذ أن مجتمعا يعج بالثروات، ويتزايد فيه أصحاب المليارات، وتتفاقم مظاهر عدم المساواة والانحدار فى مستوى معيشة كل من الكادحين والطبقة الوسطي، وهو ما سجله الباحث الفرنسى "توماس بيكيتي" بوضوح فى كتابه الأخير "رأس المال فى القرن الواحد والعشرين" أقول إن مثل هذا المجتمع المنقسم لابد أن ينتج من الغربة والعزلة والتهميش ظاهرة الإرهاب. وتنخرط مراكز البحث المرتبطة ماديا وفكريا بالشركات الكبرى ومؤسسات العولمة فى إنتاج الأفكار والنظريات التى تتجنب فى الغالب الأعم الجذر الأصلى لظاهرة الإرهاب، وتحصر الموضوع فى ميدان الثقافة والدين باعتباره جزء من الثقافة، وهى تنتج الأفكار وتعلبها وتصدرها للبلدان التى هيمنت عليها السلطوية والفساد والاستبداد، وطردت جزءًا معتبرًا من زهرة شبابها إلى الفقر والبطالة، واستجابت هذه الدول للاستراتيجية الدينية التى أطلقتها الرأسمالية العالمية، ردا على أزمتها. وخير مثال يمكن أن نقدمه فى هذا الصدد هو نظرية رجل الأمن القومى الأمريكى الراحل "صمويل هنتجتون" حول صراع الحضارات، التى قالت إن الصراع فى العالم بعد انهيار المعسكر الاشتراكى يدور بين الإسلام والمسيحية الشرقية ومعها البوذية والهندوسية من جهة، وبين المسيحية الغربية من جهة أخري، وأحالت هذه النظرية الصراع الطبقى على المستويين العالمى والوطنى فى كل بلد إلى صراع ثقافى وديني، ودعمت البلدان الإمبريالية الأحزاب اليمينية التى ترفع الشعارات الدينية لكى تصل إلى السلطة كما حدث مع جماعة "الإخوان" فى مصر. وفى كل الحالات كان الصراع الاجتماعى يفرض نفسه رغم كل التشوهات، ورغم اختزال الثقافات الوطنية فى الدين كمصدر وحيد لها، ورغم انخراط القوى الإمبريالية فى تأسيس وتمويل منظمات الإرهاب التى ترفع الشعارات الدينية وهو ما حدث مع منظمة "القاعدة" وكل ما تولد عنها، ثم بعدها منظمة "داعش" وكل ما تولد عنها، ولعبت احتكارات السلاح أدوارا مهمة فى إطلاق هذه المنظمات كمشروع تجارى خالص وفاحش الربح، وكلما ازداد الإرهاب ازدادت أرباحها. وفى ظل هذا العنف المادى والمعنوى الذى تمارسه القوى الإمبريالية وحلفاؤها المحليون، تقاوم الشعوب هذه التوجهات وإن جرى تضليل وخداع قطاعات لا يستهان بها من شبابها، ويأتى علماء من أمثال "بيير بورديو" ومئات آخرون فى كل أنحاء المعمورة ليبينوا عن طريق علم اجتماع الطبقات، وعن طريق القدوة التى يقدمونها لملايين الشباب حين ينصتون لنبض الشعوب، يبينون الأسباب الحقيقية المركبة لا فحسب للإرهاب وإنما أيضا "لبؤس العالم" الذى يقاومه البشر فى كل مكان. فريدة النقاش