نبهتنا "عقيدتي" مشكورة لذكري وفاة العالم الجليل الشيخ محمد الغزالي الذي لقي ربه في 9 مارس 1996 وسط حشد من العلماء والمفكرين في أحد المؤتمرات الإسلامية بالعاصمة السعودية "الرياض" بعد رحلة عطاء في خدمة الدعوة الإسلامية امتدت لأكثر من ستين عاماً. والشيخ محمد الغزالي رحمه الله يجسد مدرسة متميزة في استنارة العقل المسلم ونضجه ووعيه خلال النصف الثاني من القرن العشرين.. وقد ساهمت هذه المدرسة "الغزالية" في دعم واتساع مساحة التيار العقلاني المتحضر في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة.. ذلك التيار الذي يربط بين القديم والجديد.. بين الأصالة والمعاصرة.. ويجمع بين الإلتزام بقواعد الدين وأصوله والانفتاح علي العالم ومعايشة الحياة في سماحة واعتدال.. فلا تفريط ولا تطرف ولا انغلاق ولا انعزال. كان الشيخ الغزالي أمة.. ولسوف تمضي سنوات.. وتنقضي حساسيات.. حتي ندرك أهمية الدور الذي قام به هذا العالم الجليل في التجديد الديني وإيقاظ الضمائر وتصحيح العقيدة وتربية الوجدان في أجيال كثيرة هداها الله به إلي منهج مستقيم للإصلاح وفهم مستنير للدين.. حيث تمثل الكتب العديدة التي تركها لنا ثورة في مجال تصويب المفاهيم السائدة وتأسيساً لفهم متطور لدور الدين في الحياة الإنسانية. لم يكن الشيخ الغزالي مقلداً ولا تابعاً.. وإنما كان صاحب منهج مستقل.. وقد حباه الله بومضة الذكاء.. وفطره علي الروح اليقظة الناقدة التي لا تسلم بما هو كائن.. بل تسعي دائماً إلي ما ينبغي أن يكون.. وميزته رحمه الله أنه كان يعيش عصره بماله وما عليه.. كان قوياً في الحق لا يخشي في الله لومة لائم.. لا يهادن ولا يماليء.. لكنه في المقابل كان عف اللسان.. لا يقول فحشاً.. ولا يتهم ولا ينتقص من قدر أحد حتي وهو ينقد.. تدعمه ثقافة واسعة وروح سمحة وعقل وثاب وبصيرة لا تخطيء سواء السبيل. وخاض الشيخ الغزالي معارك أمته ضد التخلف والانغلاق والاستبداد والتبعية والتطرف والجهل والصهيونية.. وترك لنا نتاجاً فكرياً زاهياً يقدم الحل الصحيح لكثير من المشكلات التي نعاني منها.. استناداً إلي القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بفهم واع وتفسير ناضج يعلي من شأن القيم والمبادئ ويدافع عن حرية الإنسان وكرامته ويلفظ الخرافات ولا يصادم العقل. ويتجسد هذا النتاج الفكري في خطبه الممتعة التي لا ينساها الناس حتي اليوم في مسجد مصطفي محمود بالمهندسين التي كانت تجذب الآلاف وتسد الشوارع في العيدين وأحاديثه الشيقة بالإذاعة والتليفزيون التي عالجت قضايا حيوية عديدة.. وكانت نموذجاً في الشجاعة والبعد عن الرتابة والتقليد. ويتجسد نتاجه الفكري أكثر في كتبه التي ملأت الدنيا نوراً وعلماً وأدباً ولاقت رواجاً "واسعاً" الإسلام المفتري عليه" و"حقيقة القومية العربية" و"مع الله" و"التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام" و"فقه السيرة" و"كيف تفهم الإسلام" و"هموم داعية". وقذائف الحق" و"الحق المر". وكان أكثر كتبه إثارة للجدل كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث" الذي أصدره عام 1989 وذلك بسبب ما تضمنه من آراء جريئة ومستنيرة لإنصاف المرأة في مواجهة تيار التعصب الذي يضطهد المرأة باسم الإسلام.. في ذلك الوقت كان هناك جدل واسع في السعودية حول حق المرأة في قيادة السيارة.. وخرجت مظاهرات نسائية لأول مرة تطالب بهذا الحق بينما صدرت فتاوي تؤكد عدم جواز ذلك لمنع ابتذال النساء وتعريضهن للفتن.. وخرج كتاب الشيخ الغزالي ليقول بالحجج والبراهين الشرعية "إن الذين يبررون إلغاء دور المرأة في المجتمع ومصادرة حقوقها ليسوا إلا إمتداداً للذين كانوا يبررون وأد البنات ودفنهن أحياء في الجاهلية.. والفرق بين هؤلاء وهؤلاء أن الجاهلين كانوا يقومون بوأدهن مادياً والمتشددون المتخلفون يسعون لوأدهن أدبياً ومعنوياً". وبسبب هذا الكتاب تعرض الشيخ الجليل لحملة ضارية وصلت إلي أن دعا البعض إلي تكفيره.. ومولت جهات معروفة مقالات قامت بتجريحه في الصحف.. كما مولت سبعة كتب نشرت ضده في مصر والسعودية وآلافاً من أشرطة الكاسيت التي وزعت للنيل منه. كانت قضية الشيخ الغزالي فيما أري تتلخص في هدم المشروع الفكري الكبير الذي يروج له المتعصبون المتخلفون.. والذي يقوم بين ما يقوم علي الاستبداد والجمود وتحقير المرأة وإلغاء دورها في الحياة باعتبارها عورة.. وما هي بعورة. استمع إليه وهو يقول : "المرأة ليست مشكلة في الإسلام".. النساء شقائق الرجال بنص الحديث النبوي.. وخطاب الإسلام في القرآن موجه إلي "المؤمنين والمؤمنات".. وثابت فيه بالنص الصريح أن مقام الناس عند الله لا يتحدد بالعرق ولا باللون ولا بالذكورة والأنوثة ولكن بالصلاح والتقوي والاستقامة في الدنيا.. النساء تحولن إلي مشكلة في عصور الإنحطاط والتخلف فقط عندما شاع الاستبداد وتدهور الفكر وتراجعت التعاليم أمام زحف التقاليد الجاهلية.. تقاليد وأد البنات وازدرائها. رحم الله الشيخ الغزالي ونفعنا بعلمه وأدبه.. ومكن لمدرسته حتي تنهض الأمة من رقدتها وتخلع عنها رداء الجهل والجهالة.