عاش الشيخ محمد الغزالي حياة ثرية بعطاء نادر في صفائه وإخلاصه للدعوة، لكنه - علي عكس كثير من الدعاة - كان صادقا مع نفسه، لم يطمرها في رداء السوداويين، ولم يضع عليه عباءة الوهابيين، لكنه ظل مخلصا لكتابه الله الأعز، وقد جلب عليه ذلك مصائب بلا نهاية، ولكن كتابه " السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث " كان موجعا لهؤلاء الذين لا يقرأون ولا يفكرون ولا يفهمون، كتابٌ أثار جدلاً واسعاً وأحدث ثورةً فكرية في جدة الطرح مازالت آثارها تغمرنا ليومنا هذا، حين يبدأ كتابه مستخدماً الاستدلال العقلي والمنهج العلمي المدروس في دراسة السنة الشريفة والتفسير المحكم لآيات القرآن الكريم متخذاً طريق سرد المقدمات التي توصلنا للنتائج المقنعة. دلالة منهج حين ذكر شروطاً لقبول الأحاديث النبوية تتعلق بالسند والمتن من حيث توفر راوٍ واعٍ وحديثاً غير شاذ. ويؤكد دلالة منهجه بإنكار السيدة عائشة "رضي الله عنه" حديثاً لرسول الله"«ص" بأن الميت يعُذب ببكاء أهله حين ترفضه بذكر قوله تعالي "ولا تزر وازرة وزر أخري " وقوله "«ص" "إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " ليثبت الغزالي أن حديث الآحاد يفقد صحته بالعلة القادحة . ويطوف بك في حدائق القول بيسرٍ في مسألة نقاب المرأة حين يتخذ من كلام السيدة عائشة ذريعةً "بأنه من العادات لا من العبادات وأن وجهها ليس بعورة ذاكراً قولها كامرأةٍ تهتم بشؤون جنسها حين تذكر أن النساء كن يصلين صلاة الفجر مع الرسول "«ص"وبعد انقضاء الصلاة يذهبن لبيوتهن ولولا غبش الفجر لعرفن لانكشاف وجوههن . وينتقل بموازنةٍ ذكيةٍ بين بقاء المرأة في بيتها كربةٍ تنفث المودة وبين خروجها للعمل تنميةً لمواهبها ويتأتي ذلك بضمانات العفة والشرف مستشهدا في جرأةٍ وإعجابٍ جلىٍ بالمرأة اليهودية وقوتها في إقامة دولة إسرائيل بالرغم من قيامها علي أشلائنا. عمل المرأة يهزم القول الشائع "بعدم أحقية تولي المرأة مناصب في الدولة" مستشهداً بعهد عمر "رضي الله عنه" عندما ولي قضاء الحسبة في سوق المدينة للشفاء فقد أطلق حقوقها علي أهل السوق رجالاً ونساءً، ورغم إصراره الملح بعد عشقه لجعل النساء رئيسات للحكومات، إلا أن روح العدل تسكن قوله ٍ بمعاصرة نماذج نسائية تدعو للفخر" ليدحض قصور تفسير الحديث الشريف " خاب قوم ولوا أمرهم لامرأة"موضحاً بأن الولاية هنا مقصورة علي رياسة الدولة ومعانقاً قول ابن حزم "إن الإسلام لم يحظر علي المرأة تولي منصب ما حاشا الخلافة العظمي". ويطرح أسئلة استنكارية لتحرك مياه الفكر الجامدة وبسؤاله فيما يخص شهادة المرأة "هل من مصلحة الأمن العام اهدار شهادة المرأة في قضايا يقع ألوف منها بمحضر النساء؟ رافضاً من ينكرون شهادة المرأة في كل شيء معلياً "النص القرآني "بأن شهادة المرأة علي النصف من الرجل" حتي ليعمل عقله لتفسير ذلك بأن المرأة في عادتها الشهرية يصيبها الارتبالك متفقاً مع ابن حزم في وجود قضايا كثيرة تُقبل فيها شهادة المرأة فقط كموضوعات "الولادة والبكارة وعيوب النساء". في حقل الألغام ويسير في حقل ألغام الأحاديث الرافضة للغناء صارخاً بعدم صحة سندها جميعاً أو أنها منقطعة السند ولغير الثقات، حتي يتفق مع ابن حزم بأن "الغناء كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح " مصنفاً الغناء الحسن إلي سبعة أصناف كلها تدعو للفضيلة. ويتحدث بروحنا حين يقر "بأن العبادات من عند الله أما العادات فمن صنع الناس" ليهدم كل خرافات ساقها عالم هندي بآرائه الغربية عن آداب الإسلام في المأكل والملبس والمسكن .ليبطل الغزالي مقولة له "بأن استخدام السكين حرام في تقطيع اللحم "بتأكيده أن الرسول "ص" كان يستخدم السكين ونراه مجدداً حين يرفض اقتصار الزي الإسلامي علي لبس العمامة وأنه لبس عربي وليس شارة إسلامية مستدلاً بالحديث الشريف "كُل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة" ليكتمل عقد الآداب معه حين يرفض حديثاً يتعلق ببناء المسكن بأن المسلم يؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب" قائلاً " القصد الطيب في العمل للبناء يجرجرصاحبه للتقوي. المس ومفهومه وكعادة الغزالي يدلل بالحجة لمروجي قول "أن مس الشيطان للإنسان ثابت في الكتاب والسنة" ليتخذ الغزالي من العلم والدين سبيلاً لمنطقه ملخصاً القول بأن المس الشيطاني هو وساوس وخداع وأن الشيطان يملك استغفال المغفلين فحسب تصديقاً لقوله تعالي "ولقد صّدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين وما كان له عليهم سلطان" ويرد علي قول المتكلمين بأن الجن أجسام حية خفيفة لا تري تسبب الطاعون بأن العلم الحديث يفسرها بالميكروبات وهي نوع من العلل تسبب الطاعون. ليصح القرآن ويصبح أرفع من أن يعارضه العلم. ثم يقفز مسمي "سوء التغذية" عند حديثه عن فقه الكتاب ليشبه قلة قراءة القرآنوكثرة قراءة الأحاديث بسوء التغذية، و يعيب علي فقهاء يقسرون القرآنوالحديث من منطق واحد مستشهداً بحديث ذكره أنس بن مالك "رضي الله عنه" أن مال سلمان الفارس جُمع بعد وفاته فبلغ خمسة عشر درهماً ليرينا صور الخشية ولدي قائد من قادة الدنيا مقابلاً بذكاء حديثاً لرسول الله "ص" إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس". تغير الزمن والوسائل وهنا يوضح الغزالي حقيقة أن المشكلة ليست في المال بل في كيف يمتلكه وكيف ينفقه الفرد، ويعيب كلام الوعاظ الغير واعيين بالقرآن حين يزف بعضهم في خطبة الجوامع حديث "أبي وأبوك في النار" كبشري للمسلمين معلقاً الغزالي عليه بقوله "كيف أن أبوي رسولهم في النار !! ثم يخرج عن درب التصدي بأحاديث ثبت ظهور الدجال في آخر الزمن، كحديث أم شريك للنبي "«ص" وأن بين عينيه كلمة كفر لمن يقرؤها من المسلمين . "كلما تغير الزمان تتغير وسائله التي توصلنا لغاياتنا" مبدأ سعي الغزالي لتوضيحه وأن الأنبياء بعثوا لبث التعاليم التي تحكم صلات الناس بربهم، فالوضوء وسيلة للصلاة وضعها الشارع وضبطها أم أدوات الجهاد ووسائله فلم يضبطها الشارع، كذلك نظام الغنائم. ليصل بقيمة التطور في الأسلحة والشوري والديمقراطية التي وجدها في قول علي بن أبي طالب لمعارضيه "أبقوا علي رأيكم ما شئتم علي شرط ألا تحدثوا فوضي ولا تسفكوا دماً" فالغايات الجليلة كما يقول الغزالي وسائل نبيلة بها تقوم شوري صحيحة وجهاد نزيه في طرحه لقضايا القدر والجبر نراه يتصدي للقول بأن التكليف اكذوبة والناس مسوقون إلي مصائرهم ويتصدي لحديث "أن هناك ناس خصهم الله للجنة وآخرين للنار" برغم صحة سند الأحاديث التي تعبر عن إرادة الإنسان المسلوبة وأن سعيه في الدنيا باطل مادام كل شيء مقدر له سلفاً نراه يرفض كل ما قيل ويدعو بأن الله منح الإنسان عقلاً يفكر مؤكداً أن القرآن الكريم رفض كل ظواهر الجبر في الأحاديث حين أرجع الأمر إلي أمرين أما الدعوة إلي تأويل قريب أو اعتبارها علة غير صحيحة لينهي الغزالي كلامه بأن لو كان سعي الإنسان باطل لما قال الله عن يوم الحساب "إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعي" رحم الله شيخنا الجليل ذجازاه علي صدق اجتهاده .