مصر الحديقة الغنّاء.. بادرت إليها الأيدي من كل مكان لتقطف زهرة من زهورها. إما حباً ووداً واما اعتداء وغصباً. يحسب الكل انه سيقبض علي ناصيتها. يمتلكها. يمتلك من فيها. ويعيد رسم قسماتها وفق هواه. هؤلاء ما عرفوا حقيقة مصر وحقيقة الاقتراب منها. فمن أراد أن يتملكها امتلكته ومن أراد أن يعبث بملامحها الأصلية سخرت منه وقبضت علي ناصيته. بهذه الكلمات استهل الدكتور عادل عبدالله عبدالشكور أحد علماء وزارة الأوقاف أهم أعماله: "مصر تتحدث العربية" لمحة عن قيمة وطن وشرف انتماء. الكتاب رغم لغته الراقية. الشاعرية. التي تفوح من بين حروفها رحيق وعبق التاريخ المصري. فإنه يقدم "وجبة سريعة" سهلة الهضم للشباب. رجال مصر المستقبل.. كي يعرف شبابنا العظيم قيمته. ومكانته المستمدة من أعظم دولة عرفها التاريخ الإنساني. وأجمل بستان من الثقافة والحضارة والأخلاق انها مصر. موطن شبابنا العزيز. "مصر تتحدث العربية" هذا الكتاب يعد أحد معالم تغيير الخطاب الديني بصورة عملية. وواقعية بعيداً عن زفة الإعلام والتصريحات التي لا تثمن ولا تغني من جوع. أراد الدكتور عادل أن يدلي بدلوه في هذا المجال. ليستخرج كنوزاً قد تدفع الخطاب الديني للأمام ليواكب العصر. ويتناسب مع عقلية واتجاهات شبابنا. نادراً.. بل نادراً جدا أن يمسك داعية قلماً ويخاطب بالقلم.. ونادراً جدا أن يتحدث الدعاة عن مصر كعمل من أعمال الدعوة الإسلامية فمصر في الخطاب الديني الحالي ما هي إلا تاريخ من الوثنية. والظلم والاستبداد. وشعب يحتاج دائماً للوصاية. ولمن يعلمه أمور دينه. شعب لابد أن يتعلم دائماً كيف يتوضأ.. هؤلاء الدعاة الذين يهينون الشعب والتاريخ المصري ليكون لهم مكانة. نسي هؤلاء أن الشعب المصري هو الوحيد الذي عرفه التاريخ بصانعي الحضارات. محا الخطاب الديني "العفن" تاريخ مصر القديم واقتصره علي فترة الخلافة الراشدة حتي عمر بن عبدالعزيز. أما بقية التاريخ تركه الدعاة للمؤرخين من الغرب لينقلوا لنا ما سطره عظماء مصر. وعظماء الإسلام. أهم معالم الخطاب الديني الجديد والتي سطرها د. عادل عبدالله خلال هذا الكتاب هي التركيز علي مصر.. مصر التاريخ.. مصر العروبة مصر الإسلام. فمصر تاريخ يعلو فوق الأشخاص. وتغني الأحفاد مع أصحابها وتبقي مصر المحور الرئيسي في تاريخ الإسلام والعرب. فكما يقول الكتاب "حقاً الراية علت والرفعة قاربت السحاب عندما تحدثت مصر العربية". مصر المكانة وفي فصل شيق خصصه هذا الداعية الإسلامي المولع بمصر.. "مصر الاسم والمكان والمكانة" حيث غلب عليه ولعه بمصر عنوان الفصل الأول بهذا الاسم. وبأسلوب رشيق سهل ممتع خلص إلي أن كلمة مصر تعود إلي مصرية حام بن نوح أو إلي مصريم بن مركائيل بن دوابيل بن آدم عليه السلام. ومهما يكن من نسبة "مصر" فكلها دلائل علي عظمة هذا الوطن وجذوره المتأصلة في تاريخ الإنسانية بداية من أبناء آدم الأوائل كما يشير إلي أن مصر عمرت مبكراً وعرفت طريقها إلي الحضارة والمدنية في حقبة تاريخية مبكرة. أما مصر المكان فقال عنها أحد الحكماء انها ثلاثة أشهر لؤلؤة بيضاء. وثلاثة أشهر مسكة سوداء وثلاثة أشهر زمردة خضراء وثلاثة أشهر سبيكة ذهب حمراء وقال عنها العلامة السيوطي: "مصر هي اقليم العجائب. ومعدن الغرائب". ويغوص المؤلف في بحور التاريخ ليخرج لنا أصداف وجواهر مكانة مصر.. وأتوقف علي ما نقله من دعاء أبينا آدم لمصر فلا أدع المقام يطويني قبل أن أنقل ما قاله أبونا آدم عن مصر.. يروي ان آدم عليه السلام عرضت عليه الدنيا مشرقاً ومغرباً وكان من جملة ما رأي.. مصر فوجدها أرضاً سهلة ذات نهر جار. مادته من الجنة. ووجد جبالها مكسوة من النور. لم تحرم من نظر الله إليها. فأعجب بها ودعا لها قائلاً: يا أيها الجبل المرحوم.. سفحك جنة. وتربتك مسكة أرض حافظة مطبقة رحيمة.. يا أرض مصر فيك الخباء والكنوز. ولك البر والثروة سال نهرك عسلاً وكثَّر الله زرعك ودر ضرعك وزكا نباتك وعظمت بركتك. وخصبت ولازال فيك يا مصر الخير ما لم تتجبري أو تتكبري. دعاء نوح لمصر ولم تحرم مصر من دعاء سيدنا نوح عليه السلام فدعا لابنه بيصر بن حام أبو مصر قائلاً: اللهم انه قد أجاب دعوتي فبارك فيه وفي ذريته وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد "أي مصر". ويغوص بنا الكاتب في بحور وتاريخ اللغة العربية بصفته متخصصاً في اللغة العربية. فيتطرق إلي العلاقة بين مصر واللغة العربية فيؤكد تاريخنا ان اللغة العربية لم تكن غريبة علي المصريين فقد عرفها المصريون واحتكوا بها قبل الفتح الإسلامي. ويستدل علي ذلك برسالة الرسول صلي الله عليه وسلم للمقوقس والتي كانت بالعربية . وقرأها المقوقس بالعربية. ورد عليها المقوقس. رداً حسناً باللغة العربية. وهذا دليل علي أن العربية لم تكن مجهولة بل عرفها المصريون كلغة من اللغات المجاورة. كشف جديد وفي هذا السياق يقدم لنا الكاتب كشفاً جديداً جهلته الأجيال يتعلق بوجود جاليات عربية تدين بالمسيحية وكانت علي النحو التالي: قبائل غسان ولخم وجذام وعامله واستقرت في الجزء الشمالي الغربي من أرض سيناء. وقبيلة "بلي" واستقرت في القصير وقنا. قبائل متناثرة بين سواحل البحر الأحمر والنيل مثل "كهلان وخزاعة والأزد". وكنت هذه القبائل جالية عربية علي أرض مصر وعاشوا فيها وأصبحوا جزءاً منها. وفي هذه النقطة كلام جيد ومفيد. وفي نفس الوقت جديد علي الجيل الجديد. ولا يتسع المجال للخوض فيه. أول مدرسة عربية وفي إضافة جديدة تبصر الشباب بشوامخ مصر عبر التاريخ ذكرنا بالإمام الشافعي والليث بن سعد. والعديد من الفقهاء والقضاة والزاهدين مثل نفيسة العلم السيدة نفيسة. ثم يقدم الكاتب معلومة جديدة أو اكتشاف جديد إن جاز القول حيث أثبت تاريخياً أول مدرسة نحوية مصرية في التاريخ والتي ظهرت علي يد أسرة "ولادة" وعلي وجه الخصوص مدرسة جد هذه الأسرة "الوليد بن محمد التميمي". وعلي غير ما ألفه الكُتاب وروجوا له من أن تاريخ العلوم في العصور الإسلامية ما هو إلا علوم الشرع واللغة وهذه مغالطة تأتي دائماً عن جهل مطبق. أو عن سوء نية.. ولذلك ذكر الكتاب في لمحة سريعة أبرز علماء مصر في علوم الكون.. أمثال ابن يونس الفلكي "ولد 341 ه" والذي يعد مؤسس علم الفلك الحديث. وأهم انجازاته: رصد من خلال مرصده كسوفين للشمس عامي 977. 978. ورصد بدقة خسوفاً للقمر. حسب فلكياً ميل دوائر البروج بدقة متناهية. اخترع رقاص الساعة أو البندول قبل جاليليو بأكثر من ستمائة سنة. قام بحل الكثير من المعضلات حساب المثلثات. اكتشاف الكثير من قوانين اللوغاريتمات التي تؤدي نفس المهمة في الرياضة الحديثة. وتحدث الكتاب عن إمام الطب الطبيب علي بن رضوان والذي ولد بالبحيرة "376 ه" بالإضافة إلي أبو الصيدلة المصري داوود بن أبي البيان وهو مصري يهودي ولد عام 556 ه. وصاحب أعظم مؤلف في تاريخ الصيدلة "دستور الأدوية".