رمضان شهر النصر العظيم..النصر في غزوة بدر الكبري علي مشركي قريش الذين أخرجوا المسلمين من أرضهم. من بيوتهم. ونهبوا أموالهم. وحرموهم من أهلهم وذويهم...النصر في معركة فتح مكة. وعودة المهاجرين إلي بلد أخرجوا منه عنوة ورعبا. يقول الله عز وجل لنبيه ومن معه من المنتصرين ¢ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً¢. النصر علي التتار في عين جالوت بعد أن اكتسح المغول في طريقهم كل بلاد الشرق الإسلامي زحفاً إلي غربه» يحطمون كل ما تصل إليه أيديهم. ويدمرون حضارة الإسلام. ويشيعون همجية رعناء لا تعرف من الرقي شيئا. ولا من التقدم نورا..حرقوا عاصمة الإسلام بغداد. وأرادوا عبور الفرات» فلم يجدوا إلا مكتبتها ليجعلوا ذخائرها معبراً تعلوه خيولهم إلي الشاطئ الغربي. فتذوب الأحبار في مياه النهر التي احمرت من كثرة الكتب التي أغرقوها. كان من فضل الله أن تصدت لهم جيوش الإسلام في مصر لتصدهم وتكسر شوكتهم وتوقف زحفهم المدمر للحضارة الإنسانية. رمضان شهر الانتتصارات العظيمة في العاشر منه الموافق السادس من أكتوبر..استيقظ الناس يوم الخامس من يونيه علي صباح حزين تملؤه الهزيمة ويكسوه الدمار..تخيل معي كيف كان يعيش الشعب المصري لحظات يؤمن فيها إيماناً جازماً أن حرباً مع إسرائيل لا تكون نتيجتها إلا النصر الكامل لمصر. والخراب الذي لا خراب بعده للعدو الإسرائيلي. ولا ينتاب الناس أدني شك أو مجرد حلم أن النصر يتأخر عنا قيد أنملة. في كل صباح ومساء تحمل إلينا أجهزة الإعلام أنباء الاستعداد القوي. والأسلحة المجهزة لدخول القدس. وطرد اليهود من أرض فلسطين. وعودة أهلها إليها..بلغ الأمر بأصحاب المتاجر والمهن أن أعلنوا عن افتتاح فروعهم الجديدة في تل أبيب التي سوف تنظف من كل محتل غاصب. فإذا بصباح الخامس من يونيه 1967 ينبئ عن وصول اليهود إلي الشاطئ الشرقي للقناة. وليس بينها وبين القاهرة إلا بضع عشرات من الكيلو مترات. لم يمنعهم من دخول المناطق الفاصلة. إلا رغبتهم في عدم عبور قناة السويس. كانت الصدمة التي ما بعدها صدمة..والمذهل أن أجهزة الراديو ظلت تذيع أخباراً وهمية عن الانتصار الساحق لقواتنا. وتدمير مئات الطائرات من سلاح العدو. وظهرت الحقيقة. ووجدتني أسمع الأخبار يوم الثلاثاء 6 يونيه فلا أملك إلا البكاء المر الذي لا يوازيه سوي بكائي يوم وفاة والدي. كنا وقتها طلاباً تعشقنا القراءة ونعشقها ونذوب عشقاً في حب الكتاب. وكل ما يحمل إلينا المعرفة. لم يقتصر الأمر علي ما حدث. إنما عربده إسرائيل في سماء مصر وطالت يدها أماكن كثيرة. كنا نظن أنها لن تصل إليها:- من نجع حمادي إلي مدرسة بحر البقر وجزيرة شدوان وغيرها من مناطق أخري في الجمهورية إلا أن بوادر اليقظة آتت سريعاً فكانت معركة رأس العش الذي عبر إليها رجالنا وكذا ضرب المدمرة الإسرائيلية "إيلات" التي حطمها رجال البحرية شرق بورسعيد بزورق صغير يقوده أبطال أحبوا مصر. وعشقوا ترابها..تطورت المعارك السريعة الفردية من عبور لعبور. حتي جاء يوم العاشر من رمضان ليقود الجيش رجل عرفه الشارع السياسي منذ الأربعينات. وعرفه الناس يوم الثالث والعشرين من يوليه 1952 حين أذاع بصوته المميز قيام حركة الجيش لتحويل مجري نظام الحكم في مصر تمهيداً لحريتها واستقلالها...ذلكم هو القائد الداهية الفلاح الفصيح محمد أنور السادات» هذا الرجل مهما اختلف الناس حوله إلا أنه يبقي المراوغ الذكي والسياسي البارع الذي أدخل علي كل من حوله وَهْم عدم قدرته علي الحرب. يكتب صحفي شهير مقالاً في جريدة الأهرام بث اليأس في نفوس الناس بحديثه عن المصافي المعده لتدمير أي قوات تفكر في عبور القناة ويقتنع الناس جميعاً بهذا إلا قواد الجيش ورجاله الذين كانوا يستعدون في صمت ليوم تفرح فيه البلاد بالنصر المبين. ويتحمل الرجل الانتقادات وحكايات السخرية. والألفاظ المقذعة التي تتناثر هنا وهناك حتي كانت اللحظة الفارقة..الفارقة بين الحق والباطل. بين النصر والهزيمة. بين اليأس والأمل. بين الاحتلال والتحرير. وبدلاً من أن يقول كتاب اليهود "تحطمت الطائرات عند الفجر" قال المصريون تحطمت الطائرات عند الظهر. كانت الساعة الثانية ظهراً تقريباً حين عبرت طائرتنا للضفة الغربية تضرب مواقع العدو وقيادته لتعلن أن اليقظة المصرية لاتموت وإن كانت تتواري أحياناً ولكن استعداداً لهبة قوية ولطمة توجهها لعدوها بلا هوادة أو رحمة. تلقيت الخبر وزميل لي يشغل الآن درجة رئيس محكمة الاستنئاف- ونحن في طريقنا إلي منازلنا عائدين من عملنا نحمل حقائبنا ملآي بالقضايا. وعند باب محل كواء استبشر به حتي الآن وأتعامل مع أحفاده من بعده تيمناً به نسمع في المذياع لدي هذا الكواء صوت المرحوم صبري سلامة. يذيع البيان الأول الذي يحمل تصدي قواتنا المسلحة لمحاولة العدو عبور قناة السويس وأردف أن قواتنا عبرت إلي الضفة الشرقية. أسرعنا بالذهاب إلي بيوتنا لنتابع الأخبار وكان البكاء. ولكنه بكاء مختلف ليس بكاء الحزن والهزيمة ولكنه بكاء الفرح والنصر وعودة الكرامة والعزة. تورات الأخبار المبهجة ونشعر جميعاً الصدق فيها والنصر وفيها العبور إلي عالم القوة والردع. يُستدعي زميلي من الاحتياط لنتقابل بعد عودته بسلام يحكي صور النصر ويذيع أخبار البطولة. وعزم الجنود وصبرهم وهم صائمون. وكأن الله كافأهم بالنصر لصدقهم وحرصهم وإصرارهم علي العودة به. وفتح الله علينا مناطق اغتصبت وأراض نهبت. ونُهب كل ما فيها من ثروات. وعادت إلينا بالجهد والعرق والشهادة. مما يُفرح القلب ويرفع النفس إلي مصاف الطهارة والصدق أن أيام الحرب لم يحدث فيها ما يعكر صفو الأمن وكأن اللصوص والبلطجية والمشاغبين استشعروا مسؤليتهم نحو وطنهم فذابوا في حبه وحب حمايته والتصدي لأي انحراف. تحية لهذا الشعب العظيم الذي لا يقهر. وإلي جيشه السباق إلي النجدة دائماً إذا ما صدقت قيادته وكانوا له خير قدوة. وتحية إلي ذلك البطل العظيم ابن مصر الحقيقي الشهيد محمد أنور السادات هذا الشجاع المناور الذكي والقائد القوي الذي تحمل ما لا يتحمله بشر في سبيل تحقيق النصر للأمة ورد اعتبارها إليها وأزال عنها الغمة وأعاد إليها كرامتها...كلما تذكرت هذا القائد العظيم أشعر بفخر وعزة أن من بيننا أنور السادات. اعتقد أن هذا الرجل أخلص مع نفسه. ومع وطنه. ومع أهله. فعمل بلا كلل. وغامر في غير وجل. وخطط في صمت وحكمة ليعبر بنا نهر الأحزان. وزمن الخطايا إلي عالم النصر وصباح التحرير.. رحم الله أنور السادات الذي استشهد في ذكري يوم نصره وكفاه ذلك فخراً