قديما كان الناس يتعاملون مع علماء الدين بحساسية مفرطة حيث كانوا يوقرونهم ويحترمونهم ويحفظون لهم هيبتهم في كل مكان حتي في حالة غيابهم .. لكن ومع اندلاع حمي العمل السياسي في الشارع المصري بل والعربي والإنفلات الأخلاقي والكلامي في كل مناحي حياتنا ومع دخول علماء الدين محراب السياسة أصبح الناس ينالون من علماء الدين بنفس طريقة نيلهم من الساسة بشكل يثير الألم لدرجة أن تراث العلماء الفقهي يضيع في اللحظة التي يصنفون فيها أنفسهم سياسيا لدرجة أن أحد الشباب الناشطين علي الفيس بوك طالب بقرصنة كل المواقع التي تقدم فتاوي أحد كبار علماء الدين لمجرد أنه - عالم الدين - يخالف الشاب في الرأي السياسي ... ¢عقيدتي¢ من خلال هذا التحقيق ترصد أراء العلماء في عمل علماء الدين في السياسة وكيف نحافظ علي التراث الديني لمن يفكر منهم في الانخراط في العمل السياسي؟ في البداية يقول الداعية والمفكر اليمني الحبيب علي الجفري في تصريح ل ¢عقيدتي¢: إن القائمين علي الخطاب الإسلامي صنفان: صنف العلماء المراجع الذين يرجع الناس إليهم في الفتوي وفي فهم ما هو الصحيح. وصنف الدعاة والمصلحين الذين يعظون الناس ويحببون فعل الخير إليهم. والصنف الأول أي ¢المراجع¢ لا ينبغي أن يكونوا بحال طرفاً في تنافس أو صراع له طابع سياسي. لأنه عند اختلاف الأطراف السياسية علي أمر له علاقة بالدين ينبغي أن يرجعوا إلي العلماء المراجع. فإذا أصبحوا هم طرفاً في التنافس أو الصراع فكيف يمكن الرجوع إليهم؟ أو علي الأقل إذا اختار أحد المراجع أن يخوض الصراع أو التنافس السياسي. فلا يصح الرجوع إليه هو في هذا الموضوع» بمعني أنه إذا رأي أحد العلماء المراجع أن يكون طرفاً في اللعبة السياسية إن صح التعبير. فهو بذلك لم يعد مرجعاً في هذا المجال ولا يجوز اعتبار فتواه صحيحة في مثل هذه الحالة لأنه أصبح طرفاً في التنافس والصراع. وأضاف الجفري : إن هذا ما حصل مع الشيخ حسن مأمون مفتي مصر الأسبق - رحمه الله تعالي - حين قرر المشاركة في انتخابات مجلس الأمة زمن الاتحاد بين مصر وسوريا. فاستقال أولاً من وظيفته في دار الفتوي وتخلي عن مسؤولياته بصفته مفتي الديار المصرية ثم نزل إلي الانتخابات.وأكرر أنه لا ينبغي للعلماء المراجع أن يكونوا طرفاً في تنافس سياسي. وإلا فلا يرجع إليهم في الفتوي المتعلقة بهذا التنافس. أما الصنف الثاني وهم الدعاة والمصلحون فأمرهم أقل خطورة من حيث الفصل في الأحكام الشرعية المتعلقة بهذا الشأن. ومن ثمّ إذا أحب أحد منهم أن يشارك في الميدان السياسي فله ذلك وإن كنت لا أقبله لنفسي شريطة ألا يحول منبر الدعوة إلي جزء من الدعاية الانتخابية . ويوضح الجفري أن رصيد عالم الدين من فتاوي وكتب وأراء دينية سليمة لابد أن تحترم حتي في حالة اختلافه سياسيا بل وحتي إذا وصل به الحال الي التطرف السياسي فطالما أن أعماله وما قدمه للمكتبة الإسلامية بعيدا عن السياسة تظل تلك الأعمال موطن احترام وتقدير ولابد ألا نهيل عليها التراب لمجرد اختلاف الجمهور سياسيا مع العالم . ثقة الناس يري الدكتور محمد رأفت عثمان . عضو هيئة كبار العلماء. أن تجريد علماء الدين من حقهم في نقد الساحة السياسية أو الميل نحو اتجاه بعينه أمر لا يليق والمشكلة أننا أصبحنا نحيا في عصر اختلط فيه الحابل بالنابل ولم يعد الناس يثقون إلا في علماء الدين لهذا فعلي من يمسكون معولا لهدم هذا العالم أو غيره بسبب موقفه السياسي أن يتذكروا أن لحوم العلماء مسمومة ووقوع بعض علماء الدين في خية العمل السياسي لا يلامون عليه ولا يوجب ترك جميع أقوالهم وأفكارهم ولا يكون مدعاة إلي تنقصهم بل نأخذ من أقوالهم الدينية الموثوق فيهم ونترك أراءهم السياسية جانبا وبهذا فلا نؤثم ولا نعصم ونأخذ مما أخذوا به هم أنفسهم في اتباع من قبلهم لأننا متعبدون باتباع الحق لا سواه وكل يؤخذ من قوله ويرد إلاَّ رسول الله وعلي هذا تواطأت أقوال أئمة الإسلام رحمهم الله وفي كل ذلك نلتمس لهم الأعذار فيما وقعوا فيه من أخطاء وهم عندنا في اجتهادهم بين الأجر والأجرين لقول النبي : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر. ويضيف د.عثمان : رغم أننا نسعي للحفاظ علي مكانة علماء الدين فإننا ننصح العلماء ونقول لهم أنه لا يليق أن يتصدر العلماء لإصدار فتاوي مسيسة. ولا يصح الإفتاء وفق الأهواء السياسية والتيار العام. ويعد من باب الممنوع شرعا أن تطلق الفتاوي دون دراسة متأنية لأنها تحدد حكما شرعا يعمل به الناس لأن الأراء والفتاوي السياسية تختلف باختلاف المنطلقات والرؤي التي يراها صاحب الفتوي ولهذا فإن هذا النوع من الفتوي سيظل محل جدل وأخذ ورد. نظرا لاختلاف المنطلقات ووجهات النظر في تشخيص الواقع من جهة. ولاختلاف منازع الاستلال المذهبية في القواعد الكلية للشريعة ذاتها من جهة أخري. أما القسم الثاني من الفتوي السياسية. فهو المتعلق بالفتوي السياسية التفسيرية المستندة لنص قطعي الورود قطعي الدلالة. وهي فتوي يضيق فيها مجال الرأي والخلاف. لأن دلالتها نصية قاطعة. وعادة ما تعضد بالإجماع الذي هو أحد أهم المصادر التشريعية. العالم السياسي يري الدكتور سعد الدين الهلالي أستاذ الفقه بجامعة الأزهر أن من حق رجال العلم بالدين أن يكونوا مع رأي سياسي دون آخر بصفتهم البشرية بشرط ألا يكون ذلك بصفتهم العلمية كسائر علماء الفنون الأخري في الطب والهندسة والتجارة والزراعة. أما بصفتهم العلمية في الدين فإنهم لا يملكون بحكم دينهم أن يقحموه للاستقواء به علي مخالفيهم» لما أخرجه "مسلم" عن بريدة أن النبي. صلي الله عليه وسلم. كان يقول لأمرائه: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم علي حكم الله فلا تنزلهم علي حكم الله. ولكن أنزلهم علي حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا". وبهذا يخسر علماء الدين أنفسهم مرتين. والمؤسف - كما يقول د.الهلالي - فإن هناك علماء اليوم أقحموا علمهم في خلافاتهم السياسية وهذا مرفوض حفاظا علي تراثهم العلمي فلابد أن يعي الجميع أن السياسة مبنية علي الظن والتجربة والتنوع. وهذا يملكه كل أحد. فكان الأكثر نجاحاً فيها هو صاحب التجارب والخبرات وليس رجل العلم بنصوص الدين القرآنية والنبوية» فهذه النصوص الشرعية جاءت بالشبهين في سياسة الناس حتي يقف علماء الدين في مسافة واحدة من أصحاب المدرستين: مدرسة السياسة باللين والعفو بضوابطه كما في قوله تعالي: "فَبِمَا رَحْمَةي مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ" "آل عمران: 159". وفيما أخرجه "مسلم" عن عائشة أن النبي. صلي الله عليه وسلم. قال: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه. ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به" ومدرسة السياسة بالحزم والغلظة بضوابطها كما في قوله تعالي: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللهِ" "آل عمران: 159". وفي قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ" "التوبة: 73. التحريم: 9". والفصل بين المدرستين السياسيتين الشرعيتين "اللين والغلظة" ليس لرجل العلم بالدين. وإنما لصاحب الخبرة والتجربة السياسيةلهذا فعلينا كعلماء دين أن نترك الناس وشأنهم بينما أذن الإسلام لهم أن يختلفوا فيه وأن يتنافسوا في الأصلح إنسانياً» لقوله تعالي: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" "المطففين: 26". وما أخرجه "مسلم" عن أنس أن النبي. صلي الله عليه وسلم. قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" وعلينا أن نرفع أيدينا عن نصرة رؤية حزب علي حساب رؤية حزب آخر باسم الدين؟ وذلك لانضباط كل الأحزاب بقواعد المنظومة السياسية المتفق عليها. متاح بشروط تشير الدكتورة أمنة نصير .العميد الأسبق لكلية الدراسات الإسلامية بنات بالأزهر الي أن ممارسة عالم الدين للسياسة أمر متاح شريطة عدم توظيف الدين في عمله بالسياسة فلا يجوز مثلا أن يقدم فتاوي سياسية يغلفها بالدين لأنه بذلك يكون كمن يتلاعب بالدين لصالح أمور سياسية خاصة وأن تلك الآراء ستأخذ صورة وهنا يكون عالم الدين قد حاد عن الطريق القويم لأن القاعدة الشرعية تقول أن الفتوي وهي الرأي الشرعي لأي مسألة يجب أن تأخذ مجراها بعيدا عن أي مؤثرات سياسية أو غيرها لأنها تطبيق لشرع الله وإنزال للأحكام علي الواقع و استخدام الفتاوي لصالح أغراض سياسية من بعض الفقهاء والشيوخ ما هو إلا جواز مرور لصالح بعض التيارات التي ينتمون إليها وهذا يعني باختصار ميل العالم للاتجار بالدين وخلطه باتجاهات سياسية فلابد من إبعاد الدين عن أي أفكار سياسية. مؤكدة علي أن إصدار فتاوي في أمور سياسية يعد اتجاها غير سوي ولا يجب المضي فيه. لأنه يقحم الدين في رأي شخصي يراه مصدر الفتوي السياسية. وتضيف الدكتورة نصير : من هذا المنطلق فنحن ننصح الداعية وعالم الدين بعدم الخوض في الشأن السياسي فهذا أفضل للدعوة الإسلامية حتي يظل حاملها في مرتبة رفيعة لا تلوثه ألاعيب السياسة من قريب أو من بعيد أما إذا أصر الداعية علي العمل بالسياسة فعليه خلع عباءة عالم الدين حفاظا علي قدسية الدعوة فليس هناك خَطَراً في حديث عالم الدين في الشأن السياسي لكنْ بشرْط الوعي التام بمتطلبات التعامل مع السياسة وإدراك الفواصل بين المجالين الديني والسياسي.