تشهد الاحتفالات بقدوم العام الهجري الجديد عند الطرق الصوفية شكلاً تقليديا توارثته الأجيال منذ ألف عام وانفردوا به دون غيرهم من المسلمين في سائر المعمورة. حيث ينطلق ¢الموكب¢ الذي يضم أفرادا من مختلف الطرق الصوفية الممثلة والمعتمدة في المشيخة العامة. من امام مسجد سيدي صالح الجعفري بالدراسة عقب صلاة العصر. متجهاً إلي مسجد سيدنا الحسين رضي الله عنه. مرورا بشارع الأزهر. ويكون في استقبالهم شيخ المشايخ وبعض مشايخ الطرق. كنوع من تجديد العهد بين شيوخ الطرق وشيخ المشايخ وكذا بين المريدين ومشايخهم. ثم تبدأ فعاليات الاحتفال بعقد ندوة علمية لكبار العلماء للحديث عن الذكري والدروس المستفادة منها. وكيفية تطبيق ذلك في العصر الراهن. لكن.. كيف ينظر المشايخ والأتباع والعامة لهذا الشكل من الاحتفال؟ هذا ما نعرفه من خلال السطور التالية: في البداية يؤكد الشيخ علاء ماضي أبو العزائم- شيخ الطريقة العزمية- أهمية إحياء ذكري المناسبات الدينية المختلفة والاحتفال بها باعتبارها وسيلة لتذكير الناس بها وتعريفهم بأحداثها وتأثيراتها علي واقع الأمة. وبالتالي فالمفترض ان تؤتي مثل هذه الاحتفالات. كالاحتفال بالعام الهجري. ثمارها لدي المواطنين العاديين بتعريفهم الأحداث التي سبقت أو واكبت أو تلت الهجرة. لكن الحقيقة أن ما يتم من تنظيم موكب وخلافه لا يحقق هذا الهدف. خاصة أنه اتخذ شكلاً غير حضاري وتحول لمجرد احتفال وديكور وفي بعضه سلوكيات قد تُسييء للتصوف. وهذا ما جعل الاهتمام الرسمي بها يتواري. فبعد أن كانت هناك مشاركة رسمية من ممثل لرئيس الجمهورية تقلّصت واقتصرت علي مشاركة وزير الأوقاف ثم مندوبه ثم حتي المندوب اختفي ولا حتي وكيل الوزارة أصبح يحضر! وقال هذا يفرض علي المسئولين والقائمين علي أمر ¢الموكب¢ أن يحرصوا علي إخراجه في منظر ومظهر جميل ومحترم. خاصة وأن الهجرة قد حفلت بمواقف كثيرة عظيمة لها بالغ الأثر علي الإسلام في بداية ظهوره. وواجبنا التعريف بما لاقاه سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم من متاعب ومشاق من قبل الكفار دعته للهجرة من وطنه مكةالمكرمة الي ¢يثرب¢ التي عُرفت فيما بعد الهجرة بالمدينة المنورة. يضيف أبو العزائم: صحيح اننا لا نشارك في احتفال الموكب حاليا لملاحظاتنا عليه فضلا عن انشغالنا بالعديد من الاحتفالات الأخري. لكننا سنفكر في المشاركة مستقبلاً. بطريقتنا التي عرفها أحبابنا وهي عقد الندوات العلمية وإلقاء المحاضرات التي تنشر العلم وتفيد الناس بمعلومات عن الذكري أو المناسبة المحتفي بها. الوثيقة الصوفية يتفق معه الشيخ محمد الشهاوي- شيخ الطريقة الشهاوية. رئيس المجلس الصوفي العالمي- واصفاً الاحتفال المعروف بالموكب بأنه ¢احتفال تقليدي¢ لا يريدون تطويره او تحديثه لأن القائمين علي أمره ¢مُجمّدون¢ وتتنازعهم الانقسامات والخلافات. لكن إذا تخلّصوا من مشاحناتهم وخلافاتهم سيكون هذا الاحتفال وغيره صالحاً وجيدا ومحققا لأهدافه وثماره. بل سيرتبط بهم الناس أكثر. يستطرد الشهاوي قائلاً: وهذا ما دفعني لكتابة وثيقة للتصوف تهدف لتصحيح صورته وإعادة تقديمه للناس بشكله السليم البعيد عن الخرافات والصور المسيئة والمشوهة. وقدمتها لفضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب باعتباره علي رأس المرجعية الدينية لمصرنا والعالم الإسلامي كله. تقليد تاريخي يؤكد الشيخ أحمد الصاوي- شيخ الطريقة الصاوية. عضو المجلس الأعلي للطرق الصوفية- أن الاحتفال بالعام الهجري تقليد تاريخي. أخذت به الطرق الصوفية اقتداءً بسيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم. والموكب له أكثر من ألف عام يُنظمه الصوفية في مصر فقط دون العالم العربي الإسلامي كله. حيث ينطلق من مسجد سيدي صالح الجعفري بالدراسة مارّاً بشارع الأزهر وينتهي حيث مسجد سيدنا الحسين. وهناك تقام مجالس الذكر والعلم في مؤتمر يحضره كبار العلماء. مُشيراً إلي أن الاحتفال يتغير شكله ونظامه حسب طبيعة العصر ويتناول القضايا المعروضة علي الساحة. ففي 25يناير مثلاً أعلنت المشيخة العامة للطرق الصوفية: أننا في وقت فتنة وأغلقت علي نفسها. مع ترك الباب مفتوحاً أمام ابنائها وأتباعها لحرية إختيار موقفهم دون أي توجيه أو تدخل. وكان هذا سبباً لأن يعيب عليها البعض موقفها وعدم تدخلها في السياسة. وبعد ثلاثة أعوام تأكدت رؤيتها فكانت بذلك سابقة لعصرها وليس مواكبةً له فقط. ورغم كل الظروف المحيطة فإن الصوفية حريصة علي المحافظة والتمسك بالجانب الروحي ورعايته فنحن لدينا مبادئ وأخلاقيات لا نُفرّط فيها أبداً حتي وإن فرّط فيها المجتمع كله. يقول جابر قاسم- وكيل المشيخة الصوفية بالإسكندرية- : الصوفية تدعو للاحتفال بالعام الهجري أو اي مناسبة دينية أخري من خلال أتباعها حيث تبدأ الاحتفالات بتلاوة القرآن الكريم ثم المحاضرات العلمية المتعلقة بالمناسبة وتتخللها الأناشيد الدينية التي تُروّح عن النفس. ففي اول يوم للاحتفال مثلا تتجمّع كل الطرق الصوفية في مسجد سيدي المرسي أبو العباس بالتعاون مع وزارة الاوقاف. للتعريف بالذكري والإنشاد والذكر. ثم تحتفل كل طريقة في مسجدها وتحرص علي دعوة أحبابها للحضور. ومن ثم فإن هذه الاحتفالات تؤتي ثمارها لأننا في وقت أحوج ما نكون إلي التسامح والحب والوسطية والتجمّع وعدم التعصّب. وهذه السمات الواجب توافرها في الخطاب الديني المعاصر. خاصةً بعد خطاب تيار الاسلام السياسي الذي فرّق وقسّم المجتمع وأدّي إلي الفشل وإنهيار البلد. ويطالب جابر قاسم كل المؤسسات والافراد والهيئات بالتكاتف والتعاون لتجديد الخطاب الديني ونشر قيم التسامح والمحبة وتفنيد دعاوي التكفير والتطرف. والصوفية مؤهلة- بالتعاون مع الازهر- للقيام بهذا الدور. وكل طريقة صوفية تتناول الهجرة بمفهومها وتوضحها للناس. اقتداء بالنبي يلتقط خيط الحديث اللواء أحمد عوض صالح- مسئول التنظيم بالأشراف المهدية- مشيراً الي أن المبدأ الذي وضعه الشيخ صلاح الدين القوصي ل¢الأشراف المهدية¢ مستمد من الهدي النبوي الشريف الذي أرشدنا فيه سيد الخلق صلي الله عليه وسلم الي أن في أيام الدهر لنفحات. لذلك دعا أصحابه وأتباعه للتعرّض لها. ومن ثم فعلي المسلم والمؤمن بصفة أخص ان يتعرّض لتلك الأيام الخيّرة ويأخذ نصيبه من الأنوار التي تتجلّي فيها. يضيف: نحن باحتفالنا بهذه الأيام إنما نُذكّر بأيام الله ونسعي لأخذ أكبر قدر وعدد من المسلمين للاحتفال بها والتعرّض لتجلياتها وأنوارها. فإذا نظرنا لأيامنا المعاصرة وجدنا قضية المجتمع العجيبة في هذه الآونة أننا نفتقد جميعا للحب والسلام والسكينة. وهذا يدفعنا لمزيد من مثل تلك الاحتفالات وليس العكس. فنحن أحوج ما نكون لنفحاتها.. وهذا ما يجعلني أقول للجميع: هلمّوا عباد الله بتلبية دعوة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم لنا بالتزود من أنوار الله ورسوله. واحتفلوا بكل الأيام التي دلّنا عليها ومنها الهجرة الشريفة. واعلموا عباد الله جيدا انه سبحانه وتعالي قال:¢ واعلموا أن فيكم رسول الله¢ ولم يقل ¢معكم¢ وبالتالي فالاحتفال بالهجرة يكون بمعايشة سيدنا رسول الله وهي المتاحة لكل المؤمنين بأنوار الهجرة التي نزل بها المولي علي رسوله. وهو احتفال دائم في الكون وليس ذكري نتذكر بها ما مضي. بل نحن نعيش في هذا اليوم بتجليات يوم الهجرة في نور سيدنا رسول الله الذي هو فينا بأقواله وسنته. وسيلة التسامح ويؤكد الطاهر الهاشمي- نقيب أشراف البحيرة- ان احتفالات الصوفية تنشر سماحة الإسلام في المجتمعات خاصة القري والريف التي لا يهتم بها الإعلام. وبذلك فإن هذه الاحتفالات يكون لها تأثيرها الفعال لأنها تجمع الناس علي الخير وذكر الله والتراحم والتعارف والتعاون. فضلاً عن ان بعض الناس يحرصون علي إقامة مناسباتهم الاجتماعية مثل الزواج مواكبةً لها. وأكثر من هذا فإن العصر الذي نعيشه واتسم بانتشار دعاوي التكفير والترهيب وتشويه صورة الإسلام السمح فإننا أكثر ما نكون حاجة لتلك الاحتفالات حتي نُعيد للإسلام صورته الحقيقية ولمجتمعنا فطرته وطبيعته المتسامحة. يُشير الهاشمي إلي ان احتفالات الصوفية تأخذ أشكالاً اجتماعية حيث يتجمّع الناس في رحاب آل البيت والأولياء والصالحين وفي المناسبات الطيبة حيث تُقدم الخدمات الاجتماعية التي ينتفع بها الناس. وما ينقصنا حقاً هو أن يتم تدعيم هذه الاحتفالات بالمحاضرات والكلمات العلمية عن سماحة الاسلام وبذلك نُعيد للصوفية دورها الدعوي والتوعوي. فضلاً عن حاجتها للتطوير لمواكبة متطلبات الناس وتلبية احتياجاتهم بأسلوب جديد راق لا يعرف التكفير. التجربة الصوفية من جانبه يري المستشار محمد فرحات الشرنوبي- رئيس محكمة طنطا- أن الحياة التي نعيشها حالياً والاحداث المتلاحقة والساخنة التي نمر بها تجعل الناس في أمس الحاجة إلي ما يُعيدها للروحانيات بدلاً من الجلوس علي المقاهي أو الهروب إلي القُري السياحية وتساءل مستنكراً : هل من المناسب الآن الحديث عن جدوي الإحتفالات الدينية وإنكارها أم كان من الأفضل الحديث عن وقف اماكن اللهو والبعد عن ذكر الله؟! فالناس الآن تحتاج إلي الاحساس بالأمان ويكفي أن هذه الاماكن والإحتفالات توفر هذا المطلب. فعلينا النظر الي حكم الوسائل وحكم المقاصد. فالمقصد هو الوصول للأمن والاستقرار وبالتالي فالوسيلة لها نفس حكم المقصد. يُضيف المستشار الشرنوبي: وأري أن أهل مصر عامة والصوفية خاصة لديهم طبيعة سمحة وقد آن الأوان أن يطبق المصريون التجربة الصوفية الشرعية والسنية الحقيقية. عودة الروح ويؤكد مصطفي شيبوب- مهندس معماري- أن مثل هذه الاحتفالات بمثابة إعادة الروح للامة وتذكير بتاريخها وأحداثها وسيرة نبيها صلي الله عليه وسلم والصحابة التابعين أما عدم الاحتفال فهو تغييب للأفراد والناس عن تاريخهم ودينهم. وحادث الهجرة الشريفة بالذات له مكانة عظيمة بإعتباره بداية لإنتشار الإسلام.