مع كل مناسبة دينية أو احتفال نسعد بالمدائح والقصائد والأشعار التي تروي سيرتها وخاصة في المولد النبوي الشريف الذي يحفُل بما نعجز عن حصره من مدائح وقصائد وأشعار في مدح صاحب الذكري سيد الخلق أجمعين صلي الله عليه وآله وسلم لكن من الملاحظ أن معظم- إن لم يكن- كل تلك المدائح قد وضعت وسُجّلت في أزمان بعيدة تبدأ منذ فجر الإسلام ذاته حيث حسّان بن ثابت¢ شاعر الرسول¢ وفي الهجرة الشريفة حينما تعلّقت قلوب المسلمين الأوائل بقصيدة بنات النجار¢ طلع البدر علينا.. من ثنيّات الوداع.. أيها المبعوث فينا.. جئت بالأمر المطاع.. جئت شرّفت المدينة.. مرحبا يا خير داع¢ وتوالت مثيلاتها عبر التاريخ والعصور حتي كانت ¢بُردة البوصيري¢ التي استقي منها معظم المداحين قصائدهم بعد كلمات شهيدة العشق الإلهي¢رابعة العدوية¢. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نضُبت وتوقفت قرائح المنشدين والمدّاحين عن الإبداع ونظم القصائد والأشعار التي تمدح وتُبيّن فضل سيدنا رسول الله؟! الإجابة بكل تأكيد: هي النفي التام لأن سيرته صلي الله عليه وآله وسلم تُلهم المُحبّين والعاشقين بكل جديد وملائم للعصر وهذا ما يؤكده الواقع وإن كان الغالبية تتمسك بالقديم من باب معرفة الناس به وحفظها له عن ظهر قلب وهذا ما تكشفه السطور التالية: فقد تحولت المدائح النبوية من مجرد ذكر لأوصاف سيد الخلق سيدنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ومدح في خصائصه وشمائله إلي وسيلة ¢رقيقة¢ تعزف علي وتر القلوب والمشاعر ¢الرهيفة¢ وتجذب إليها الأفئدة فيهدي الله تعالي بها من يشاء إلي نور التوحيد والعبادة الخالصة له سبحانه. ضرورة عصرية وصارت تلك المداح- فضلا عن كونها أمرا إلهيا أكده القرآن الكريم- ضرورة عصرية مُلحّة في وقتنا الراهن الذي يحتاج لما يُعيد التوازن فيما بين الماديات التي طغت علي كافة مظاهر حياتنا وبين الروحانيات التي نفتقدها بشكل كبير ومخيف. وقد شهدت المدائح النبوية عدة مراحل تطورت خلالها من الشكل التقليدي بقراءة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي تمدح صفات رسول الله منذ عهد الصحابة الكرام والتابعين وما كان من أهل الصُفّة وحتي اليوم سواء في المساجد أو حلقات وساحات الذكر ومجالس العلم ¢والحضرات¢ التي تُقام في أماكن مختلفة بالعالم الإسلامي.. حتي صارت اليوم لها شكلها وموسيقاها وإلقاؤها بل ملحنوها ومنشدوها المتميزون خاصة بعد تطور الآلات الموسيقية. فقد عُرف فن إلقاء المدائح النبوية منذ بدايته بالإنشاد الديني وله منشدوه الذين تفرّدوا بهذا اللون من الإلقاء في التواشيح التي كانوا يرددونها قبيل أذان الفجر خصوصا في القري والأرياف وكذا في المناسبات الدينية كالمولد النبوي الشريف وليالي الهجرة والإسراء والمعراج وعاشوراء وغيرها من الاحتفالات حيث سعي كل منشد للإبداع والتميز لجذب اهتمام أكبر عدد ممكن من الناس أمثال الشيخ سيد النقشبندي. تطور أشكاله ولكن بعد تطور وسائل التسجيلات الصوتية والآلات الموسيقية وجدنا من تخصص في هذا الفن من المدح مثل ¢مدّاح النبي¢ محمد الكحلاوي- رحمه الله- وقد سار علي نهجه من بعده ولده المداح أحمد الكحلاوي شقيق الداعية الإسلامية د. عبلة الكحلاوي. وهناك أيضا شيخ المداحين والمنشدين¢ ياسين التهامي¢ الذي ذاع صيته داخليا وخارجيا وقد زار مختلف دول العالم ينشد ويمدح في حب سيدنا رسول الله ود. عبد العزيز سلام وهناك من الشباب المعاصرين حسام صقر وفرقته. وفي كل هذه المدائح يعتمد المنشدون والمدّاحون علي قصائد وأشعار أهل التصوف ممن عُرف عنهم هذا مثل عمر بن الفارض والإمام المجدد محمد ماضي أبو العزائم الذي صدر له مؤخراي مجلّد ¢الديوان¢ ويضم أكثر من ألف قصيدة في حب سيدنا رسول الله والشيخ صلاح الدين القوصي وغيرهم من الشعراء المحبين والعاشقين لسيدنا رسول الله وآل بيته. يجذب القلوب عن هذا الفن المتخصص يقول الشيخ ياسين التهامي: هذا النوع من المدح والإنشاد يجذب الكثيرين خاصة أنه يخاطب القلوب قبل العقول والنفوس والأسماع بطبيعتها تميل لما يُحرّكها وينتشر هذا الفن في الأرياف والقري نظرا لحبهم لسيدنا رسول الله وآل بيته الأطهار. ولكن بعد تطور وسائل المعرفة والتواصل بين الناس ومع تقدم صناعة الآلات الموسيقية وإدخالها في تلحين وإلقاء الأبيات والقصائد اتسعت دائرة المحبين لهذا الفن ولم تقف عند حد العرب والمسلمين فقط بل شملت كذلك غير الناطقين بالعربية والذين ينجذبون إلي سماع الموسيقي. يضيف التهامي: نظمتُ الكثير من حفلات المدح النبوي في العديد من الدول الغربيةكفرنسا وبريطانيا وغيرهما ولمسنا تزايد عدد الحضور من غير العرب فهم قوم ¢رقاق¢ القلوب تشدهم الموسيقي وكثير منهم بدأ يسأل عن هذه القصائد والمدائح وفيمن تُلقي وبالتالي كانت وسيلة للتعرف علي الإسلام والحمد لله أن كثيرين منهم دخل في دين الله تعالي من خلال هذه المدائح. يتفق معه حسام صقر مؤكدا أن المدائح النبوية ليست وسيلة للتسلية وضياع الوقت كما يظن البعض وإنما هي وسيلة مهمة جدا للتعريف بسيرة سيدنا رسول الله وآل بيته بشكل مُبسّط وسهل دون تعب وبطريقة محببة إلي النفس العصرية التي تطوق لسماع الموسيقي. نماذج مديح وهذه بعض نماذج من المديح النبوي للشيخ صلاح الدين القوصي صاحب العديد من دواوين الشعر في حب ومدح سيدنا رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم نقتطف منها أبياتا يرددها الغالبية من أبنائه مثل: صلاة الظل صلوات أسمي وسلام من نور الرحمن وظل الله النور.. وما ظل للنور سوي نور الظل فعليك صلاة من نور يا نورا يبدو في ظل يا عين الأنوار.. وعينا لعيون في عين مُقل صلاة المهداة صلوات عظمي من ربي وسلام لرسول الله لا خلق أبدا يقدرها تعظيما لرسول الله طريق الهداية وفي لقاء مع أحد المسلمين الجدد الذين عرفوا الإسلام عن طريق تلك المدائح يقول الشيخ ¢عبد الله بنو¢ - مُقدّم أحدث ترجمة لمعاني القرآن الكريم إلي اللغة الفرنسية- سألته عن سبب إسلامه فقال ¢بنو¢: أنا إنسان فرنسي عادي وُلدت لأب فرنسي يعمل بالتدريس الجامعي في الولاياتالمتحدةالأمريكية ووالدتي تعمل بمهنة التمريض وعندما كان عمري 6 أشهر سافرت الأسرة إلي أمريكا وعدنا وعمري 6 سنوات إلي فرنسا تدرجت في مراحل التعليم حتي البكالوريا ثم توقفت عن الدراسة ونظرا لأنني مُغرم بالسياحة والتجوال قرّرت القيام برحلة طويلة في عدد من الدول العربية والآسيوية وكنتُ وقتها ضمن جيل¢الهييبز¢ المعروف بإطالة شعره أرافقهم في بعض الرحلات فذهبت إلي الهند لاكتشاف حضارتها ومررتُ بدمشق ومكثتُ فيها مُدّة قصيرة لتعلّم شيء من العربية حيث كانت لدي معلومات بسيطة عن الإسلام والصوفية ومحيي الدين بن عربي وأردت التعرّف عليهم أكثر وهناك تعرّفت علي شيخ مسن بيّن لي هذه الحقائق بشيء من اللغة العربية والإنجليزية وهو يشير إلي في كلامه ظننتُ أنه يطلب مني الصعود معه في ¢الباص¢ وبعد مسافة من السير التفت إلي وفوجئ بي فسألني: أما زلت معي؟ إذن تعال معي إلي المسجد فدخلت معه مسجد محيي الدين فسألني ثانية: هل تُحسن الوضوء؟ فقلت: ما أدري ما الوضوء؟ فسألني : وهل تعرف الشهادة؟ فقلت: لا. فنطقها أمامي ¢أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله¢ ورددتها خلفه. فقال لي: أنت الآن أصبحت مسلماي. فقلتُ في قلبي: هذا شيء غريب لكنني كنوع من التطفّل قرّرتُ الاستمرار في المسجد طالما أنني أعلنت إسلامي حتي وإن كان ظاهرا لأري ما تُقدّمه لي الأقدار وكان ذلك في عام 76 وكان عمري وقتها 22 عاما فالتحقت بالمدرسة الشرعية هناك لكن بعد 10 أيام لم يُعجبني الوضع في المدرسة ونظام التدريس بها فقلت لهم: إما أن تذهبوا بي إلي شيخ صوفي لما قرأته عن الصوفية- وإما أترككم.. فأنا شاب من¢الهيبز¢ وولدتُ وتربيتُ في الغرب وما يدرسونه في تلك المدرسة بعيد تماما عني. وتصادف أن كان هناك شيخ جزائري في المدرسة قال لي: أنا لستُ صوفيا لكنني أرشدك إلي شيخ صوفي صادق ربما تجد عنده ضالتك. فأخذني إلي الشيخ أبو النور خورشيد- شيخ الطريقة العلوية الشاذلية- فكان أول انطباع لي معه أن قلت في نفسي: رُبّما أكذب علي الناس كلهم إلا هذا الشيخ أبدا. فكانت هذه نقطة تحوّل كبيرة في حياتي فأخذني إلي ما يُسمّونه ¢الحضرة¢ أو مجلس الذكر حيث استمعت لما كانوا يرددونه من قصائد ومدائح نبوية وسُررتُ بها تماما.