نحن علي أبواب الشهر الفضيل إذا تصورنا شهر رمضان في موقف المساءلة من أبناء الأمة الإسلامية ومن شعوبها فبماذا نجيب؟ وما طبيعة هذه الأسئلة؟ وما موقف المتسائلين منه أساسا؟ حين نحاول إبراز هذه الصورة سنري في واقعنا الملموس أن هناك فريقين: الأول: ينظر إليه علي أنه قدرى فرضته التقاليد والعادات لتغيير أنماط السلوك الاجتماعي والاقتصادي للصائمين بما يؤدي إلي إهدار الموارد بمضاعفة الإنفاق علي المآكل والمشارب والكماليات والترفيهيات والمستوردات. كما يؤدي إلي استهلاك الطاقة الكهربائية في السهر والمكث في المساجد المكيفة ليلا أو الجلوس في المقاهي والملاهي والأندية والشواطئ. كما نلحظ فيه تعطيل وسائل الإنتاج فالكثيرون في إجازات. ومن يعمل يعمل بتكاسل وإهمال وتأجيل للمصالح إلي ما بعد رمضان تعللا بمتاعب الصيام. وكان يمثل هذا الفريق سابقا نظام بورقيبة التونسي وتبعه الماديون والعلمانيون في الوطن العربي. وعلي هذا الفريق يرد رمضان بأنه ليس سببا في هذه الظواهر السلبية والضارة فلم يطلب من الصائمين الإسراف في الطعام والشراب بل جعل إمامهم قدوتهم الطيبة متمثلة في سيد الصائمين حيث كان يفطر علي تمرات وشربة ماء ثم يصلي المغرب ويعطي فرصة لإيقاظ المعدة واستعدادها لهضم ما سيأتيها من طعام. ثم يتناول لقيمات يستعين بها علي صلاة العشاء والقيام ثم ينام إلي وقت السحر فيتهجد ويتسحر محكوما بقاعدة عامة في الفطور والسحور وفي كل الأيام. نبهنا إليها. هي "أنه ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه فإن كان لابد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه". ثم يسبح إلي شروق الشمس ويمضي إلي عمله نشيطا مستعينا بالله علي إتقان هذا العمل ليكون أجره حلالا ولينال حب الله. وسيرة النبي صلي الله عليه وسلم وتاريخ الإسلام مشرقان ببطولات الصائمين في شهر رمضان ترتب عليها النصر في بدر والفتح وعين جالوت وحطين والعاشر من رمضان. وما حدث في هذا الشهر من إحباط مخطط الإجرام في سيناء. وإذن فليس العيب في رمضان ولا في الصيام بل هو مشجع علي العمل والجهاد والإخلاص إنما العيب كل العيب في عدم التزام الصائمين بتعاليم الإسلام وآداب الصيام. أما الفريق الثاني: فإنه يقدر لهذا الشهر ما استفاده منه علي الوجه الآتي: "1" استشعر معية الله ومراقبته حين كان يمتنع عن مشتهياته في وقت هو فيه في أشد الحاجة إليها جوعا وعطشا وكان في إمكانه أن يحصل علي ما يشاء خفية بعيدا عن أعين الناس ويدعي أنه صائم. وكان لذلك أثر في تخلقه بخلق الصبر وتنمية الوازع الديني الذي يوصل إلي التقوي التي بها يتولي الله أمره فيخرجه من أي مأزق أو أزمة ويفتح له أبواب الرزق الواسع وييسر أمره ويشرح صدره ويعطيه نورا يمشي به في الناس وفرقانا يميز به بين الحق والباطل. "2" استمتع بإصغائه لما يتلي عليه من آيات الله في صلاة التراويح. وتعود علي الخشوع والتأني في الصلاة. وحاول أن يصل إلي مستوي أولي العلم من أهل الكتاب الذين كانوا إذا تتلي عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا. "3" انتفع كثيرا بمدارسة القرآن وتدبره من خلال دروس العلم. فكسر بذلك الأقفال التي تحول دون وصول نور هذا الوحي إلي القلوب. كما أشار إلي ذلك رب العزة في قوله: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقرْآنَ أَمْ عَلَي قُلُوبي أَقْفَالُهَا". "4" حاول أن يتخلق بأخلاق القرآن وأن يتخلص من أسر الأنانية البغيض الذي يجعله منشغلا بنفسه وبرزقه وبمستقبله وبأولاده. وينطلق إلي مجالات رحبة في خدمة الأمة كرما وسخاء وتعاونا علي البر والتقوي. وارتقاء بالمصلحة العامة فوق المآرب الشخصية من منطلق أن الله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وأن ما ينفق من شيء فالله يخلفه. وأن أحب الناس إلي الله أنفعهم للناس. ومن فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. وأنه لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وتلك كلها آثار مترتبة علي مدارسة القرآن. بدليل أن نبينا صلي الله عليه وسلم كان حين يدارس جبريل القرآن أجود بالخير من الريح المرسلة. "5" جاهد نفسه لتعمير قلبه بحفظ ما يتيسر له من القرآن إذ الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب. فإذا كان حافظا للقرآن متقنا له استشعر واجباته الثلاثة: أولا: أن يكون مثالا لأخلاق القرآن في الحلم والعلم والصدق والصبر والسماحة والأمانة والمعاملة الحسنة. ثانيا: أن يعلم القرآن لغيره فخير الأمة من تعلم القرآن وعلمه. ثالثا: أن يستمر في مراجعته وتلاوته فهو أشد تفلتا من الإبل في عقالها. لهذه المآثر العظيمة التي استفادها هذا الفريق من شهر رمضان يعتز الصائم به ويتمني أن تكون السنة كلها رمضان ويخر لله ساجدا شاكرا أن بلغه رمضان وأن أكمل له عدته وأتم عليه نعمته. وحق له أن يفرح بفضل الله ذلك الفرح الذي لا يتم إلا بصلاة العيد وتكبير العلي المجيد وأداء زكاة الفطر وصلة الرحم وإشاعة البهجة والسرور علي أهله وعشيرته والتصالح مع خصومه والعفو عمن ظلمه والإحسان إلي من أساء إليه فمن عفا وأصلح فأجره علي الله. ومن أحسن من الله ثوابا وعطاء.