استنكر علماء الدين بمختلف تخصصاتهم اقتحام أدعياء الفتوي في مجال الحديث عن الشريعة وتطبيقها مما يسيء إلي صورة الإسلام أكثر من أعدائه.. مطالبين بضرورة إسناد أمور الدين لأهله وعلمائه. حذروا من خطورة إفساح المجال أمام الأدعياء الذين يشعلون أبواب الفتنة والجدال. مطالبين الأزهر القيام بدوره ومسئوليته وسد الفراغ في الدعوة والافتاء. وطالبوا بالتصدي للفتاوي التي تثير الفتنة وتدعو إلي الخراب والتدمير وليس البناء والنهضة. والنظر إلي الوراء بعقلية جامدة ومتشددة مثل هدم الآثار وغيرها.. في البداية يصف الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق تلك الفتاوي بأنها صيحات أناس لا يفهمون ولا يفقهون. وكل ما يجب هو ألا يتصدروا للفتوي التي نريدها فقط من عالم الدين وليس من كل ناعق ولا منَّ يدعي القول بالدين. فهذه الفتاوي من أولئك الأدعياء ليست سوي تخريف وتحريف وتضليل وإفك وليست ديناً ولا فتوي التي ينبغي أن تكون لأهل العلم والفتوي. لأن من يفتي بغير علم وهو غير مدرك ولا مطابق أو الموافق العقل والحال فهو يسيء لصحيح الدين. ويطالب الشيخ عاشور بضرورة العودة إلي أهل العلم والدين الدارسين العارفين وألا نسأل الزبالين وبائعي البطاطا والجرجير. فالدين له علماؤه وأهله. وتساءل: أين كان للأدعياء اليوم الصدارة في الإعلام والفضائيات فهذا نتيجة انقلاب الأمور خاصة بعد الثورة التي أصبحت الأمور بعدها "سمك. لبن. تمر هندي".. للأسف كله يفتي في الدين. مع ان الأزهر هو الأصل والمرجع في الإسلام الوسطي وينبغي الرجوع إليه في كل أموره وليس لأي أحد آخر.. فليس كل من أطال لحيته أصبح عالم دين. ويحذر الشيخ عاشور من خطورة مثل هذه الفتاوي التي تضل الناس وقد حذرنا سيدنا رسول الله من أولئك بقوله: "اتخذ الناس علماء جهالاً فآمنوا بغير علم فضلوا وأضلوا" وهذا ما نعيشه الآن. العلم لأهله يقول الدكتور صبري عبدالرءوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر: أجمع الفقهاء علي أن الفتوي لا تجوز من غير متخصص لأن الله سبحانه وتعالي يقول في قرآنه الكريم: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" وقال أيضا: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون". هذه الآية تؤكد لنا أن الواجب علي المسلم أن يتفقه قبل أن يتحدث مع الناس عن الإسلام. وأن يكون عليماً بما يقول. أما الجاهل فلا حق له في الكلام مطلقاً. وقال: ومن هنا رأينا الصحابة الكرام كانوا يحترزون عن الفتوي لا لجهلهم ولكن لعلمهم التام بالمسئولية التي تقع علي المفتي. فكان بعضهم يحيل علي بعض رغم منزلتهم العلمية التي كانوا يتمتعون بها. فإذا كان هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم لشدة ورعهم كانوا يخافون من التصدي لأي فتوي فما بالنا بجماعة من الناس خرجوا علينا بفتاوي هي في الأصل ما أنزل الله بها من سلطان لأنهم يدعون العلم وما هم بعلماء. ويدعون الفتوي ولا فقه لهم. وفاقد الشيء لا يعطيه. وفتاواهم غالباً تثير الفتن والمشاكل بين الناس. يضيف د. صبري: ولهذا نقول لهم: اتقوا أيها الناس. فسكوتكم خير من كلامكم لأن فتاواكم تثير مشاعر الناس وتشعل نار الفتنة والعدواة. والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها. فلا تتكلموا إلا بما أنتم موقنون به بشرط أن تتفقهوا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتعلموا أن النص له دلالته وله مفهومه وله فحواه. فلو أنكم تفقهتم في مثل هذا لبنيتم فتاواكم علي قواعد صحيحة وكانت محل احترام الجميع. ولذا نقول للقائمين علي القنوات الفضائية: اتقوا الله في ضيوفكم ولا تستضيفوا إلا المتخصصين كل فيما يخصه عملاً بقوله تعالي: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" وإلا فإن مسئوليتكم لا تقل أهمية عن مدعي الفتوي بل ربما تحملتم من الأوزار أكثر منه لأنكم الذين تهيئون الفرصة لأمثال هؤلاء. يستطرد د. صبري قائلاً: يعتقد المشاهد ان هؤلاء من العلماء وأن كلامهم حجة فيعملون بما يسمعونه من أمثال هؤلاء فينشرون الفساد بين الناس لأنهم يتكلمون فيما لا يفقهون. وسيدنا رسول الله يقول: "من سنَّ في الإسلام سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها إلي يوم القيامة" يقول أيضا: "من أفتي بغير علم فقد ضلَّ وأضلَّ". تاريخ وحضارة يؤكد الدكتور عبدالمقصود باشا رئيس قسم التاريخ بكلية الدراسات الإسلامية بالأزهر ان الدين الإسلامي في أساسه ونشأته وتكوينه وصلبه دين تاريخ وحضارة احترم كل حضارات الدنيا قديمها وحديثها كما احترم خصوصيات كل أمة وكل شعب. ومن هنا نشأ الاحترام المتبادل بين الإسلام كدين وحضارة وبين ثقافات وحضارات الشعوب الأخري. وحينما دخل قتيبة بن مسلم رضي الله عنه ومحمد بن القاسم الثقفي وغيرهما من قادة الإسلام العظام بلاد أي شعب من الشعوب احترموا خصوصياتهم كما احترم عمرو بن العاص وعقبة بن نافع وموسي بن نصير وحسان بن النعمان حضارات وخصوصيات تلك الشعوب. فإذا أخذنا مثالاً لمحمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم فاتحي وسط آسيا والهند وغرب الصين سنجد انهما احترما البوذية بآلهتها ولم يقتربوا من معابدها ولم يجبروا أحداً علي الإسلام وقد رأي قتيبة في بلاد الأفغان تماثيل بوذا المنحوتة في الصخر والجبال الشاهقة رآها هو ورجاله فنظروا إليها وقدروا فن أهل هذه البلاد وخصوصياتهم الحضارية فلم يقتربوا منها بل لم يعترضوا علي من يعبدها. فلما تحول معظم أهالي هذه البلاد إلي الإسلام ودانوا به وأصبح شريعتهم وحضارتهم وتمسكوا به ديناً ومذهباً وشريعة حياة وبقيت هذه التماثيل تذكرهم بفن قديم وحضارة قوم كان الدين متغلغلاً في صدورهم حتي وإن اعتقدوا ببطلانه فبقيت هذه الدلائل دلالات حضارة وتاريخ وآثار أمم. وإلي الآن في جزيرة العرب بقيت آثار قوم صالح وبقي البئر الذي كانت تشرب منه ناقة صالح وبقيت المساكن المحفورة في الصخور إلي الآن ورد ذكرها في القرآن. هي في بلاد جزيرة العرب. بل ان سيدنا محمد رسول الله حين مر بهذه الأرض لم يأمر بهدم هذه الأماكن بل أصر أصحابه بعدم المكوث فيها طويلا. أي سمح لهم بالرؤية ومشاهدة حضارة شعوب أبيدت ثم أمر بألا يبيتوا فيها أياما كثيرة. أليس في هذا دليل علي أن المعلم الأول رسول الله أقر رؤية هذه الأماكن والاعتبار بها ومنها؟! وهكذا كان عمرو بن العاص صار علي سنة حبيبه وقد قال عمرو: ما رفعت عيناي في عيني رسول الله منذ أسلمت هيبة وخجلاً منه. فعمرو متبع وليس بمبتدع. ويستطرد د. باشا قائلاً: أتعجب كثيراً ممن يهذي فيفتي بغير علم ويقحم نفسه فيما ليس له فيه فيفتن الناس ويشيع الفتنة في الدولة. إن هذه الأهرامات وتلك التماثيل الفرعونية وطريق الكباش مثلاً والمعابد المتعددة في الصحراء إنما هي شواهد قوية علي حضارات أذن الله لها بالزوال وبقيت آثارها شاهدة علي عظمة فكرهم وسموهم ورقيهم. حتي الآن لا يعلم الناس كيف أقاموها. وظهرت نظريات عديدة حول طريقة وكيفية بنائها والهندسة العظيمة بداخلها. وتساءل: هل كان رجال الأزهر من يوم إنشائه علي باطل حتي يأتي هؤلاء فيعلمونا ديننا؟ هل كان عمرو بن العاص مقصراً في حق دينه وإسلامه فترك هذه الآثار ليكيد بها دينه؟! أم أن هؤلاء تركوا العمل وأمسكوا بالجدل؟! وما أفلح قوم كان همهم الجدل وديدنهم ترك العمل! يا سادة لا تشغلوا الناس بترهات فارغة وبأفكار باطلة فتشغلوهم عن الرقي بوطنهم وتطعنوهم في أعز ما يملكون "دينهم" وكأن ألف وأربعمائة عام من الهجرة مرت بنا علي ضلال؟ فهل هذا يليق؟ هل من يفتون بذلك أفقه من عمرو أو الخلفاء الراشدين حين كتب عمرو إلي عمر بن الخطاب يصف ما بمصر من آثار. فما أصدر الفاروق أمراً بهدمها؟ هل هؤلاء أفقه من شيوخ الأزهر العظام؟ هل هم أفقه من سلاطين الأيوبيين أو من اللخلفاء الفاطميين أو أعلم من العز بن عبدالسلام الذي حكم بأن يباع مماليك مصر وسلاطينها من المماليك في سوق النخاسة؟ أو من الإمام الغزالي ومحمد عبده وغيرهم؟. ويختتم د. باشا قائلاً: يا سادة اتقوا الله في دينكم وشعبكم وكونوا عوناً للعباد والبلاد من أجل تحقيق التقدم العلمي وكونوا عباد الله إخواناً ولا تفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم. فتوي علي "الموضة"! يتحسّر الدكتور السيد عبد الرحيم مهران - الأستاذ بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر فرع أسيوط - علي حال الفتوي والدين في الوقت الراهن مشيرا إلي أن التصدي للفتوي من المجازفين بلا علم أضحي مثل "خطوط الموضة" فلا تكاد تفتأ صيحة حتي تعقبها أخري. وكأن العلم الشرعي لا أهل له ولا ضابط للإنشغال به أو القول فيه. كل ذلك تحت زعم أن الدين ليس حكراً علي أحد. يستطرد د. مهران قائلا: والحق أن هذه المقولة تؤخذ أخذ "عضين" علي غرار "ويل للمصلين" أي كلمة حق يُجرجرُ بها الباطل الي صدر المشهد العام. فقد يصوغ القول أن الدين ليسي حكرا علي أحد في العمل به وتعلّمه أيضا. أما التحدث باسم الدين فلا يصوغ أبدا إلا أن يكون حكرا علي المؤهلين له. فالدين وعلومه ليس أقل من أي علم دنيوي لا يتكلم به إلا المشتغلون به والمؤهلون له. يؤكد د. مهران أن هذه ثوابت ومُسلّمات لا تخرج عنها قضية القول بهدم الأهرامات أو أبو الهول وغير ذلك من الفتواي الشاذة والغريبة طالما أُستبيح حمي العلم الشرعي ليتكلم فيه المزايدون, وطالما وذلك هو الأهم - وجد هؤلاء من وسائل الإعلام المُسفّة من يفتح لهم فرص القول أو إشاعة مزايداتهم علي أوسع نطاق ممكن لهذه الوسائل التي أبت إلا أن تترك جدّ القضايا لتنصرف إلي كل غث رخيص ضمنت به وفيه الإثارة والانتشار! يضيف د. مهران: والحق أن مثل هذه القضية تجعلنا نؤكد أن أمر الإعلام ووسائله العديدة في حاجة ماسّة لا أقول لإعادة هيكلة أو برمجة وإنما الي إعادة صياغة لجملة قضيته وتطهير لماهيته. والتطهير المقصود في هذا المقام ليس مجرد التطهير السياسي الذي ينبذ أتباع نظام ويستجلب أتباع نظام آخر! وإنما المرجو نبذ غير المؤمنين بالرسالة الإعلامية وخطورتها في حياة الأمم واستجلاب المؤمنين بهذه الرسالة والواعين لقضيتها من المُسلّحين بالمهنية والاحتراف. هذا وإلا فلن يرتق الفتق ولن ينسد الجحر. وستخرج علينا منه الثعابين تلو أخواتها. ولن نعدم يوما من يطالب بهدم جبال العالم لأن فيها بالطبع ما يُعجب الناظرين ويُقصد للزيارة إعجابا وانبهارا!! وما بقي التأكيد عليه أن للآثار والمعالم التاريخية فقهها الخاص بها. من حيث التعامل معها.. صيانة وزيارة وتأملاً واستنتاجا.. وهذا يتحدد بالطبع تبعا لموضوع كل أثر وما يشير اليه الأثرمن معان فرعية وتفصيلية. وحين يتحدد الموضوع بمعالم واضحة يتحدد الحكم لأن الحكم علي الشئ فرع عن تصوره. ومما يمكن قوله علي سبيل الإجمال في هذا المقام: أن كل ما تحصّل من تأمّله وتدبّره اعتبارا لسنن الله في الكون ووعي بهذه السنن الكونية فهو مشروع طالما أُمن منه هذا المعني وما شاكله من معان مشروعة.