يقوم الإعلام الديني بعملية ترويضية لأدمغة الناس يقوم بها دعاة الدين لترسيم وقولبة أفكار الناس وتطويعها وفق نظامهم الفكري أو وفق عقيدتهم هم أو توجههم الديني أو مصالحهم الطائفية لاستخدام الناس فيما بعد لتحقيق ما يريدون هم بهم ومنهم. ومما هو معلوم للقاصي والداني أنه قد ترسخ في وعي الناس خطأ أن الفقيه أو رجل الدين حين يتحدث في الدين فعلي الناس أن يلتزموا بالإصغاء لما يقوله لهم، وكذلك علي الناس أن يقوموا بإخلاء وتفريغ أدمغتهم وقلوبهم وإعدادها كي تستوعب وتمتلئ بما فقهه هو من الدين وحسب، ظنا منهم أن الله قد قصر فقه الدين علي شخص معين أو مجموعة معينة من الأشخاص قد كلفهم بفقه الدين وإنذار الناس بما فقهوه من الدين وعلي بقية الناس أن يلتزموا بفقه هذا الفقيه أو ذاك، دون اعتراض أو مراجعة لما يقول امتثالا لقوله تعالي: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم)، لكن ما نلحظه في هذا النص القرآني العظيم أن الفقه في الدين ليس بهذا الفهم ولا بهذه الكيفية، بل إن فقه الدين لم يجعله الله حكرا علي شخص واحد بعينه ولا مجموعة محددة بعينها إنما قال: (من كل فرقة منهم طائفة)، وهذا يعني أن الناس وفق واقعهم في أي مكان من الدنيا هم فرق كثيرة ومتعددة قد تكون اجتماعية أو ثقافية أو علمية أو جغرافية أو عرقية أو قومية أو قبلية أو أي لون آخر من الفرق يجتمعون في بلد واحد أو دولة واحدة، وقد تجتمع هذه الفرق والطوائف المجتمعية علي دين واحد كما اجتمع العديد من الفرق في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام علي دين واحد هو الإسلام، فكان من عدالة الحق سبحانه ومن عظمة هذا الدين القيم ومن أجل أن يطيح الله بكل صور وأشكال الاحتكار الديني لفهم الدين وفقهه، أمر الحق سبحانه أن ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، مما يعني أن مسئولية الفقه في الدين هي مسئولية المجتمع كله بكل فرقه وطوائفه وليس حكرا علي شخص بعينه ولا مؤسسة بعينها ولا فرقة بعينها ولا طائفة بعينها، ذلك لأن الدين يمس كل طوائف المجتمع وكل أفراده فرداً فرداً، فكان لزاما أن يأمر الله بأن يشارك المجتمع كله بكل فرقه وطوائفه في فقه الدين، ولا يعني ذلك مشاركة كل أفراد المجتمع فرداً فرداً إنما أن يشارك ممثلون عن كل طوائف وفرق المجتمع في فقه الدين ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما فقهوا من الدين وبما اتفقوا فيه وعليه. وهذا ما يمكن تسميته ب (ديمقراطية فقه الدين) التي لا يمكن أن تجد لها نظيرا في أي رسالة دينية سوي في القرآن الكريم وحسب، بل خاصية عظيمة من خصائص الدين الإسلامي التي لم يلتفت إليها أحد من قبل، وهي أن جميع شرائح المجتمع حتي العمال والفلاحين وأهل الحرف والصنائع والعسكر والمرأة والحكام والخدم وأهل التجارة والعبيد والأحرار وغيرها من الشرائح ملزمة بالمشاركة في فقه الدين بل وحق لها أن تشارك في فقه الدين. لأن الدين بتشريعاته وأحكامه وعباداته ومعتقداته ليس مجرد نظريات علمية ولا قواعد علمية وليس مجرد أفكار ومعلومات مقصورة علي فئة بعينها أو طائفة بعينها، إنما الدين هو تنظيم وتنسيق وضبط لكل تفاصيل الحياة اليومية لجميع الناس دون استثناء، فكان من الظلم والجور قصر فقه الدين ووقفه وحصره علي طائفة بعينها أو فرقة بعينها دون أخذ بقية الطوائف والفرق الأخري بعين الاعتبار مراعاة لمصالحهم وظروفهم وشئون عيشهم التي قد تتفق أو لا تتفق مع ما تم فقهه من الدين علي يد شخص بعينه أو طائفة بعينها. فالتاريخ الإسلامي لم يعرف سوي الاستبداد الطائفي أو الفئوي أو الشخصي أو المؤسسي أو السياسي لفقه الدين وتحييد وحرمان جميع فرق وطوائف المجتمع الأخري من المشاركة في فقه الدين. والنتيجة كانت ما نراه الآن من اختلافات وتفرق وتحزب وتشرذم، وكل ذلك كان منشأه ومصدره الاستبداد بفقه الدين، لأن استبداد طائفة واحدة أو فرقة واحدة أو مؤسسة واحدة بفقه الدين وفرض ذلك الفقه أو الفهم علي بقية الطوائف والفرق الأخري يعني أنه لا ثقة في فهم الآخرين ولا في رأيهم، بل واعتبارهم غير مؤهلين لفهم الدين وبالتالي فهم في حاجة لمن يصوب لهم فهمهم ودينهم ورأيهم، وهذا يتنافي مع طبيعة الدين الذي أنزله الله لكل الناس فقيرهم وغنيهم كبيرهم وصغيرهم ذكرهم وأنثاهم عالمهم وجاهلهم، ثم ماذا ربحنا من استبداد طائفة أو مجموعة بعينها بفقه الدين؟؟، سوي أننا أصبحنا أسري وسجناء لفقه وفهم السلف، وهذا ما جعلنا نغوص في قاع التأخر والتخلف، فلو كنا قد التزمنا ب (ديمقراطية فقه الدين) كما أمرنا الله بأن يكون لكل فرقة من المجتمع طائفة تمثلها وتجتمع كل تلك الطوائف علي فقه الدين لكنا قد رأينا في حياتنا كل جديد وكل إصلاح وتقدم وكل خير، ولما وصلنا إلي ما وصلنا إليه الآن من جهل وتخلف وأمية وضعف وهوان وتمزق واستبداد يستشري حتي في دمائنا، ولكننا لم نر ذلك لأن من استبدوا بفقه الدين قد قيدوا الناس وأوثقوهم في فقه واحد وتصور واحد قامت به طائفة واحدة وفرقة بعينها لم تأخذ في حسبانها تبدل الزمان والأحداث والثقافات وعجزوا عن تقديم أي جديد للناس، حتي أصبحت معارفنا وعلومنا وحياتنا ومفاهيمنا وواقعنا ليس سوي نسخ مكررة ومتشابهة من الماضي ومن بعضنا البعض وليس هناك من شيء جديد غير ما هو موجود في أذهان الناس منذ قرون طويلة سواء كنا فقهاء أو عواما. وأخيرا أقول: هل من الممكن أن يعيد القائمون علي الإعلام الديني اليوم النظر في استبدادهم بفقه الدين وحدهم دون مشاركة بقية طوائف وفرق المجتمع الأخري؟؟ وهل سيلتزمون بفريضة: (ديمقراطية فقه الدين) كما أمرنا الله بها منذ أربعة عشر قرنا؟؟، أشك في أن شيئا من هذا سيحدث، وادعوا الله أن يخيب ظني فيهم.