عمد التشريع الإسلامي إلي أن تساير أحكامه في الجملة مصالح الناس ولذا فإنه شرع بعض الأحكام ثم أبطلها ونسخها. والنسخ وإن كان قد انتهي بانتهاء الوحي فإن الشارع علل الأحكام ليرشدنا إلي أن الحكم يتبع علته ويدور معها وجوداً وعدماً في الكثير الغالب خاصة في مسائل المعاملات التي كثيراً ما تتأثر باختلاف المكان والزمان. ومراعاة مصالح الناس في أمور معاملاتهم أمر أساسي في التشريع الإسلامي ولذا كان للعرف والعادة اعتبار في الأحكام. ولما كان المسلمون مخطابين بالشريعة أصولها وفروعها وأن يطبقوا أحكامها علي كل تصرفاتهم والتزاماتهم لزم أن يكون التشريع قد راعي صالحهم رغم اختلاف أقاليمهم وتأثرنا بأعرافهم وعاداتهم. وقد تتبع الفقهاء الأحكام فوجدوا أنها موضوعة لمصالح الناس كما دل علي ذلك القرآن الكريم فيما يدل عليه ما جاء في سورة الأنبياء من أن الله سبحانه لم يرسل نبيه إلا ليرحم به عباده يقول الله تعالي: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" وأساس الرحمة جلب المنفعة ودفع المضرة وهي دائرة حول ذلك لا تتعداه ولذا فإن التشريع الإسلامي لوحظ في أحكامه اليسر والبساطة كي لا يقع الناس في ضيق وحرج ومشقة يقول الله تعالي: "وما جعل عليكم في الدين من حرج". ومن جهة أخري فإن الشارع قد علل لنا كثيراً مما شرع بما يفيد أن التكاليف والأحكام خير للناس وبر بهم فالصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر يقول الله تعالي : "إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" والصوم وسيلة إلي إتقاء ما يسيء به العبد إلي نفسه وإلي غيره يقول الله تعالي: "كتب عليكم الصيام كما كتب علي الذين من قبلكم لعلكم تتقون". والزكاة إحسان وبر وتعاون يقول الله تعالي: "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" والحج فإنه مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون من كل فج ويأتون إليه رجالاً وعلي ضامر يأتين من كل فج عميق ويتبادلون بينهم الرأي والمنافع مع ذكر الله يقول تعالي: "وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلي كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله" وهكذا في كثير من أحكام العبادات والمعاملات وغيرهما من مختلف الأحكام الشرعية. ومن جل ذلك دفع الاجتهاد في الأحكام الشرعية وكان القياس علي ما لم ينص علي حكمه للاشتراك في الوصف الذي يناسب لشرع الحكم علي مقتضاه. وقال الفقهاء إن مقاصد الشريعة في الخلق ثلاثة أقسام وهي: 1 ضرورية لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا علي استقامة بل علي فساد ومن ذلك أصول العبادات التي ترجع إلي حفظ الدين والعادات الي ترجع إلي حفظ النفس والعقل كتناول ما يحفظ البدن والمعاملات التي ترجع إلي حفظ النسل والمال وإلي حفظ النفس والعقل كذلك وقالوا: إن مجموع الضروريات في التشريعات كلها هي هذه الخمسة: حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل. 2 حاجية: وهي التي يفتقر الناس إليها من حيث التوسعة ودفع الضرر كالرخص المخففة لبعض العبادات في بعض المناسبات وكإباحة الصبر والتمتع بالطيبات إلي غير ذلك. 3 تحسينية: وهي ترجع إلي قسم مكارم الأخلاق التي هي دعامة الحياة الصالحة ومنها الطهارة وستر العورة وأخذ الزينة وتجنب الإسراف والإقتار. وهذا ما ترجع إليه مقاصد الشريعة الإسلامية وكلها أمور معقولة المعني لو خلي العقل الكامل المتنزه ونفسه قبل إطلاعه علي مشروعية الأحكام لوصل إلي معرفة الكثير منها واهتدي إليها. وكان اعتبار المصلحة هو المشعل الذي أضاء السبيل بفقهاء المسلمين فاستطاعوا أن يجتهدوا علي ضوئه وأن يسيروا في التصرف علي مقتضاه ومن نظر في تشريع القرآن للأحكام وجد أنه كثيراً ما يسلك بها مسلك التعليل الذي يطمئن النفوس بالأحكام والذي يوسع الأفق لاستخراج كثير من المجهولات. فهناك أحكام عديدة معلقة صراحة أو إيماء في الكتاب والسُنَّة فآية تحريم الخمر والميسر تفيد أنها رجس من عمل الشيطان ثم تنهي عنها وفي آية الصوم وبعض أحكام الرخص يذكر الله سبحانه وتعالي أنه يريد بنا اليسر لا العسر وفي آية الاستئذان قبل الدخول علي الأجانب لقول الله تعالي ما يفيد أن ذلك أزكي للناس وأطهر لقلوبهم وأمر النبي عليه السلام بالاتجار في أموال اليتيم جاء معللاً بأنها إذا تركت دون استغلال أكلتها الزكاة وهكذا نجد الكثير من الأحكام التي جاء بها التشريع الإسلامي معللة بالعلل ومشروطة بالمصالح والحكم فما جري عليه عمل الصحابة والتابعين في تعرفهم علي الأحكام إنما هو أثر من آثار تلك اللفتات الحكيمة في كتاب الله وسُنَّة رسوله. وفي ضوء ذلك التوجيه الحكيم يذهب المحققون من العلماء إلي أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ولابد أن تشتمل العلة علي المصلحة أو المفسدة التي تناسب شرع الأحكام أمراً أو نهياً أو إباحة.