الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق رجل تجمعت فيه ثوابت الأخلاق وإقدام الأبطال. وزهد الصالحين. ودأب المجاهدين وعزة الآباء الشامخين.. فمجمل القول فيه أنه بشر. وأنه خير علماء الأرض أجمعين. ساقتني الأقدار أن أكون قريبا منه فترة طويلة من الزمن بحكم عملي كمراسل صحفي في الأزهر الشريف. وعانيت كثيرا حتي أصبح ممن يأمن إليهم فكان لايشك في أحد ولكن لا يأمن لأحد بسهولة ولا يلقي بثقته لأحد إلا بعد عناء كبير بعد هذا العناء أصبح يثق في شخصي كمحرر. وفي "عقيدتي" كصحيفة تناصر الأزهر. وتوج هذه الثقة بالمرحوم السيد عبدالرءوف أول رئيس تحرير لعقيدتي. ففي بداية ظهور "عقيدتي" اتفقنا في مجلس التحرير علي ضرورة نشر مقالات مكتوبة بخط يد الشيخ جاد. تشرفا وتيمنا وسعيا لزيادة التوزيع. وبالفعل ذهبت إليه في مكتبه الكائن بمشيخة الأزهر بالحسين. وأبديت له رغبتنا في نشر مقال أسبوعي له "بعقيدتي" وساعدني في هذا الطلب مدير إعلامه الشيخ عمر البسطويسي متعه الله بالصحة والعافية وكان رحمه الله قليل الكلام مع الفائدة القاطعة فرحب ووافق بكل شغف. وأسند الأمر للشيخ عمر البسطويسي للتعامل مع "عقيدتي" وانصرفت وأخبرت قيادتي بالصحيفة فتعالت الفرحة. اتفقنا علي موعد النشر وحصلت علي أربعة مقالات كدفعة أولي كلها في الأمور الحياتية. وهموم المسلم في حياته ودارت عجلة النشر واستمرت أكثر من شهر. وذات يوم وأنا مع أحد قيادات الأزهر إذا به يطالبني بأن تدفع "عقيدتي" للشيخ مقابل هذه المقالات. تعجبت وأصابني الوجوم فليس من صفاته هذا النهم. أخذت كلام هذه القيادة موقع الجد. وظننت أن هذا الكلام جاء بتعليمات من شيخ الأزهر نفسه ولا يريد أن يفاتحنا فيه. تحدثت في هذا الأمر مع المرحوم السيد عبدالرءوف فتوقف كثيرا وأكد أن أي مكافأة تصرف لشيخ الأزهر لابد أن يتدخل فيها رئيس مجلس الادارة فالموضوع أكبرمن امكانيات عقيدتي.. وتم الاتصال برئيس مجلس الادارة الذي قرر صرف مبلغ كبير يليق بمقام الشيخ جاد وحرر رئيس مجلس الادارة مجموعة من الشيكات. وتسلمتها لتوصيلها للأزهر. ومنعا للحرج. قدمتها لمدير إعلام الامام. ودخل بها للشيخ جاد. ثم خرج إليّ بعد فترة.. وقدم الشيكات مرة أخري. وقد شطب عليها الشيخ جاد. وكتب خلفها "تعود لأصحابها" وأخبر مدير إعلامه أن يبلغني بألا أقدم له أي شيك آخر. والمقالات مستمرة.. فشيخ الأزهر لا يتربح من علم يقدمه للمسلمين. فضلا عن أن الشيخ جاد الحق علي جاد الحق أعز بكثير من أن يكون تاجرا في سوق المزايدات الرخيصة ولا أنسي الكلمة التي نقلها عنه مدير الاعلام "أكرمنا الله بالعلم والفقه. فلا أقل من أن نقدمه لمن يطلبه مجانا كما أخذناه مجانا. نحن علماء لا تجار.." الداخلية علي الباب كان الشيخ جاد الحق علي جاد الحق رحمه الله يعتز دائما بمظهره كعالم. فلا يحب أن يراه أحد إلا في أكمل وجاهة فكان يجمع بين الزهد والعزة. وأذكر أنه حينما كان يقوم للوضوء في مكتبه ينبه علي عم "عبدالوهاب" الساعي الخاص به ألا يدخل عليه أي مخلوق حتي ولو كان "رئيس الجمهورية" وكانت هذه تعليمات مشددة وصارمة لا مهادنة فيها وذات يوم كان قد قدم لزيارته وزير الداخلية وأظنه محمد عبدالحليم موسي وتقدم وزير الداخلية وخلفه كتيبة من حراسه. واقترب من باب حجرة شيخ الأزهر. فنهض عم عبدالوهاب ممسكا "بأكرة الباب" وكأنه يحكم إغلاقها. فأمره وزير الداخلية أن يفتح الباب لكي يدخل مباشرة علي الشيخ. وكان الامام وقتها في طقوسه للوضوء والصلاة فرفض عبدالوهاب بشدة. بعد أن أدار ظهره للباب حتي لا يستعفي عليه فيدخل أدرك عبدالحليم موسي أنه في موقف حرج. فهو يقف علي باب شيخ الأزهر ولا يستطيع الدخول. والذي يمنعه ساعي الشيخ جاد. فغضب الوزير. وكأنه يقول مثلي تفتح له كل أبواب كبار مصر فكيف يغلق أمامي هذا الباب ومن ساع؟ انصرف غاضبا. دون لقاء الإمام الأكبر وبعد أن وصل مكتبه كان الامام الأكبر في انتظاره علي التليفون وأخبره بالحادثة. فأكد له الامام الأكبر صحتها ولا شيء فيها والساعي علي حق وقال: لا أستطيع أن أقطع خلوتي مع الله بدخول أي إنسان كان.. ومزح معه ولطف الجو. وانتهت الحادثة بعزة الامام التي لا تلين. وحنكته في استيعاب أي غاضب. بين القذافي وعزمي في الوقت الذي كان ومازال العديد من الدعاة والعلماء يلهثون للوصول لأي حاكم عربي ليسلم عليهم وينفضوا من عنده وفي أيديهم "الصرة" في هذا الوقت كان الشيخ جاد الحق علي جاد الحق يحمل عزة العالم الأبي التي ترفعه فوق الحكام والأباطرة. هذه الحقيقة لم يستوعبها العقيد القذافي. فظن أن الامام الأكبر مثله مثل من يلهث إليه ليتشرف برؤيته ويحصل علي المال ولذلك في إحدي رحلات القذافي إلي مصر وأذكر أنه مكث فيها ما يقرب من أسبوع أو أكثر جمعت له الدولة كل ما يطلب من تجمعات لكي يخطب فيهم ويلتقوا بهم لا أن يلتقي بهم. منهم أساتذة الجامعات وعلي وجه الخصوص جامعة القاهرة.. وغير ذلك. فقد وصل لمسامع القذافي المكانة الكبيرة التي يتمتع بها الامام الأكبر علي جميع المستويات فطلب من رئاسة الجمهورية أن ترتب موعدا لكي يحضر إليه الشيخ جاد الحق علي جاد الحق في مقر إقامته في مصر. وتحركت رئاسة الجمهورية. وكان الاتصال من زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وقتها وأخبر الامام الأكبر برغبة القذافي في تحديد موعد للقائه في مقر إقامته. فلم يترك الامام الأكبر لنفسه فرصة في التفكير أو تقليب الأوراق.. بل رد علي زكريا عزمي فورا.. من يريد أن يلتق بمن؟ رد زكريا عزمي: طبعا يا مولانا هو الذي يريد اللقاء قاطعه الامام الأكبر: إذن هو الذي يحضر إليّ هنا طالما يريد أن يلتقي بي. أما أن أذهب إليه فهذا طلب غير مقبول. وما كنت أتصور أن يصدر منك حاول زكريا عزمي أن يتحدث أو يبرر الموقف فعاجله بغضب: خلاص يا دكتور زكريا. أدرك زكريا عزمي أن الأمر جد خطير.. فماذا يقول للقذافي.. فقد يحدث مالا يحمد عقباه لو صارحه بعدم رغبة الشيخ للقائه. وتحدث زكريا عزمي في هذا الأمر مع الرئيس السابق لكي يأمر أو علي الأقل يقنع الامام الأكبر بالذهاب للقذافي في مقره. ورغم بغضنا للرئيس السابق إلا أن الحق لابد أن يقال.. فقد أخبر زكريا عزمي بقوله: ماذا قال الشيخ.. قال يأتي هو.. فرد عليه إذن أخبر القذافي بذلك. الله أعلم بما حدث في الأروقة بعد ذلك لكن المهم أن خرج الشيخ جاد الحق عزيزا. يملأ مكانة الأزهر التي تعلو فوق أي رئاسة. مع الرئيس في الحجرة المعدة لاستقبال الرئيس السابق قبل دخوله للقاعة الكبيرة ليلقي كلمته في افتتاح مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية في سبتمبر 1994. جلس الرئيس السابق. ومعه الامام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر.. وتطرق الحديث لموضوع المؤتمر الذي هو امتداد لمؤتمرات المرأة.. ونظر الرئيس السابق إلي الامام الأكبر وهو يبتسم وكأنه حقق مطالب الاسلام في هذا الموضوع وقال للإمام الأكبر أظن أن الأمور استقامت في جميع بنودها بمعني أن أبحاث المؤتمر خلت مما يتعارض مع الشريعة الاسلامية. وكعادته في إطلاق كلمة الحق في وجه أي إنسان ولكن بعفة اللسان. وجراءة الشجعان قال له: لسه..!! وهنا فهم مبارك أن الأمور مازالت فيها الكثير من المآخذ. وأن للأزهر كلمة أخري. بعد هذا الحوار بدقائق دخل الرئيس السابق وحانت كلمته. فأعلن أمام الجميع أن المؤتمر لا يخرج بشيء يخالف الشريعة الاسلامية. جاءت هذه الكلمة بناء علي ما نبه إليه شيخ الأزهر. فالامام الأكبر لا يعرف كلمة "كله تمام يا ريس" خاصة إذا تعلق الأمر بالاسلام وشريعته. وكذلك الأزهر. ولم يعرف كلمة "اللي تشوفه يا ريس" ولا يعرف الكلمات الملتوية "ربنا يسهل" "كله خير" وإنما يعرف شيئا واحدا وهو كلمة الحق التي لابد أن تقال مهما كانت العواقب. ومن الطبيعي أن الحكام يحترمون العالم الزاهد العزيز الذي يعتز بدينه وعلمه ونفسه مهما اختلفوا معه. ويهنون العالم المهان مهما قدم للحكام من مديح وتطويع أحكام الدين لأهداف الحكام. وللتاريخ فقد كان رثاء رئاسة الجمهورية للشيخ جاد الحق علي جاد الحق أمرا غير معهود ولم يحدث أن أصدرت رئاسة الجمهورية رثاء بهذه الصورة المطولة والعظيمة. رحم الله الامام الزاهد. العابد. عزيز النفس شديد البأس. الذي خاف الله فخافه الحكام وخشع لمالك الملك. فاهتز أمامه الممالك والملوك.