إن قضية الثواب والعقاب قضية محورية. وهي فكرة أصيلة في المنهج الإسلامي. وهي رمانة الميزان في المنع والعطاء. والعزل والتولية وهي تتثق تماماً مع فطرة الإنسان وجبلته.. حيث إن الله تعالي خلق الإنسان ولديه القدرة لا علي التمييز بين الخير والشر فقط بل علي التمييز بين خير الخيرين وشر الشرين لنفسه فلنضرب علي ذلك مثالاً.. طالما قفز اللص من أقرب نافذة من أي وسيلة من وسائل المواصلات ولو كانت تسير بأقصي سرعتها وذلك إذا شعر الركاب به وهو يحاول جاهداً سرقة أحدهم فإذا ما صرخ صارخ "حراااااااااامي" لينبه بقية الركاب مما قد يلحق بهم من عدوان هذا النشال.. كان أول تصرف يلجأ إليه صاحبنا هو الفرار إلي أول نافذة تقابله والقفز منها إلي الخارج وذلك بموجب موازنة داخلية سريعة رجحت بالنسبة له أن القفز من النافذة رغم الضرر الذي سيترتب علي قفزته هو بمثابة ارتكاب أخف الضررين بالنسبة له إذا ما قورن ذلك بما قد يلحق به من أذي لو تمكن الركاب من الإمساك والفتك به. وعلي العكس لم نسمع أن أحدهم قد ارتكب نفس التصرف في طائرة ما وهي تحلق في الجو حتي وإن مورس معه نفس المثير الذي مورس مع الأول.. لم نسمع أنه ألقي بنفسه من أول نافذة تقابله في الطائرة كالأول لماذا..؟ لأن الهلاك الحتمي محقق في قفزته خلافاً للأول وأن أخف الضررين هو أن يتمكن منه الركاب فيوسعونه ضرباً وركلاً حيث ترتفع علي رأسه الأخُف وتنزل الأكُف. ونظرة سريعة تجد أن القرآن الكريم قد قرر قاعدة الثواب والعقاب فأذن لهذا الرجل الصالح ذي القرنين أن يستعمل الثواب مع المحسن والعقاب مع المسيء. بعد بيان الحق إذ أن المؤاخذة لا تكون إلا بعد البيان.. ولاحظ أن ذي القرنين ذكر بشأن الصنف الأول أمرين وذكر بشأن الصنف الآخر أمرين.. لكنه مع الصنف الأول قدَّم عذاب الدنيا عن عذاب الآخرة وذلك مراعاة لمقتضي الحال إذ أنه يتعامل مع قوم كافرين لا شأن للآخرة في حسهم إذ أنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً فضلاً عن أن يؤمنوا بما فيها من عذاب!! ولذلك بدأ بالعذاب الدنيوي الذي سيوقعه عليهم وهو أمر محسوس ملموس لا مجال لإنكاره ثم جاء ذكر العذاب الأخروي لاحقاً أما الصنف الآخر فقد بدأ معه بأمر الاخرة وهو أمر في حسه لو تعلمون عظيم فقال: "وأما من آمن وعمل عملاً صالحاً فله جزاء الحسني" وقد يكون من المفيد هنا أن نشير إلي تلك القصة الطريفة التي رويت في تاريخ الإمام ابن حجر العسقلاني صاحب أعظم شرح لصحيح البخاري وهو كتاب "فتح الباري" هذا الكتاب الذي كان سبباً في امتناع الإمام الشوكاني عن الإقدام في شرح صحيح البخاري مجيباً علي من سأله ذلك بقوله: "لا هجرة بعد الفتح" إذ تقول هذه القصة أن ابن حجر وقد كان قاضي القضاة في مصر في زمانه وهي وظيفة بمنزلة وزير العدل في زماننا وكان له موكب كموكب السلاطين عليه من المهابة والوقار ما عليه وقد تعرض له ذات يوم في طريقه رجل يهودي كان يبيع الزيت في ثياب خلقه ومنظر بائس فأراد الحراس منعه لكن ابن حجر طلب منهم أن يتركوه فقال يا إمام ناشدتك الله هل قال رسولكم صلي الله عليه وسلم "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" قال ابن حجر: اللهم نعم قال اليهودي الزيات: يا إمام ناشدتك الله ثانياً أي سجناً نت فيه علي ما أنت عليه من هذا النعيم وتلك النعمة.. وأي جنة تلك التي أنا فيها علي ما أنا عليه من النكبة والبؤس الذي تراه فقال ابن حجر: أنا علي ما أنا فيه مما تراه مقارنة بما أرجوه عند الله من ثواب في الآخرة اعتبر في سجن وأنت علي ما أنت فيه من بؤس وفقر مقارنة بما ينتظرك من نار تلظي لا يصلاها إلا الأشقي فأنت في جنة. ونعود إلي قضية الثواب والعقاب والتي هي منتهي القصد في مقالنا هذا بعد هذه القصة التي ذكرناها والتي جاءت بمثابة جملة اعتراضية أردنا بها أن نقرر قضية الآخرة في حس المؤمن.. نستطيع أن نقرر الفشل الذريع الذي يعاني منه القطاع العام ومؤسساته هو نتيجة حتمية وإفراز طبيعي للخلل في قضية الثواب والعقاب.. حين يجد المجد المجتهد من العاملين نفسه يتساوي مع الكسالي والتنابلة آخر الشهر فيما يتقاضي من رواتب ومكافآت وعلاوات ولا فرق بينهما علي الإطلاق فما الذي يدفعه أن يعمل؟