فتحت قريش صناديق الحلال بل والحرام. وعرضت الهدايا والهبات. وصرخت في الجميع: من أحضر محمداً وصاحبه حياً أو ميتاً فله مائة ناقة. وهذه ثروة ضخمة بالنسبة للعربي في أرض الجزيرة تشكل غني يبذل من أجله الدم والروح. وكان من بين هؤلاء الذين تركوا أيديهم طمعاً في هذا العطاء وفي هذه المكافأة الضخمة فارس لا يشق له غبار يعرف كيف يسخر ظهر جواده. بل ويعرف كيف يسير في دروب الصحراء. وكيف يقطع المسافات الطويلة في وقت قصير. انه سراقة بن مالك. لكن تعالوا نسمع من سراقة وهو يحدثنا عن هذا اليوم وعن هذه الرحلة الشاقة العصيبة. اسمع إليه وحديثه في صحيح البخاري. يقول سراقة بن مالك: أخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت حتي أتيت فرسي فركبتها فرفعتها حتي اقتربت بي حتي دنوت منها فعثرت بي فرسي -يعني وقعت- فخررت عنها. وانتبه أنه لما يكون فارس كبير ويسقط عن فرسه فهذا عيب كبير جداً ان يسقط الفرس فارسه. يعني يؤتي من قبل ما أبدع فيه وما برع فيه. قال: فخررت عنها -أي سقطت عن فرسي- فقمت فأهويت يدي إلي كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها. وهذه عادة جاهلية قبيحة وشركية فاستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذي أكره -يعني خرج ان لا يضرهم سبحانه الله مع أنه لا يعتد بها ولكن مع ذلك قال: فخرج الذي أكره- فرسي تقرب بي حتي سمعت قراءة رسول الله وهو يتلو القرآن. يقول سراقة: ورسول الله لا يلتفت وأبوبكر يكثر الالتفاف. رسول الله موصول القلب بالله "ما ظنك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا" هذا يقين من علّم الدنيا كلها برد اليقين. أبوبكر خائف ولكنه ليس خائفاً علي نفسه -ورب الكعبة- لا والله حاشاه. فأنا أقول بكل ثقة كما قلت قلب الصديق ذلكم القلب التقي النقي الذي يدق علي دقات قلب حبيبه النبي. الصديق علي مستوي عال من الصديقية. خائف ولكنه خائف علي رسول الله. وإن قتل الصديق فهو رجل. ولكن إن قتل النبي لا أقول قتلت أمة بل قتلت دنيا بأسرها. ضاعت بشرية كاملة. فهو يخشي علي حبيبه من الطلب أو من الرصد. يقول سراقة: رسول الله لا يلتفت وأبوبكر يكثر الالتفاف. قال: فساخت يدا فرسي في الأرض حتي بلغتا الركبتين. تصور معي المشهد المرة الأولي وقع عن الفرس ولكن هذه المرة بلغتنا "غرزت في الرمل حتي لامست بطن الفرس رمال الصحراء. عش هذا المشهد بقلبك وبصرك وكيانك" والرسول في طريقه لا يلتفت لكنه يقرأ القرآن. هذه اللطيفة الجميلة توجب علينا ان نتوقف عندها ولندرك جميعاً أن الإنسان إذا كان في فزع فعليه بالقرآن. وإذا كان في هم فعليه بالقرآن. وإذا كان في كرب فعليه بالقرآن. فالقرآن من أعظم وسائل الأمن والأمان في الدنيا والآخرة. القرآن أمن وأمان لأهله الذين يعملون به في الدنيا والآخرة. قال سراقة: وهو يقرأ القرآن ولا يلتفت وأبوبكر يكثر الالتفاف خوفاً علي صاحب الدعوة صلي الله عليه وسلم. ساخت يدا فرسي في الأرض حتي بلغتا الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر بدرها عنان ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم بالأمان -أي نادي رسول الله وصاحبه بالأمان- فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي وطالما أعطاهم الأمان فستجري الفرس ولن تغوص في الرمال. قال: فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتي جئتم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم. علم يقيناً أن الأمر من الله عز وجل وأن الله هو الذي سيظهر أمر رسوله صلي الله عليه وسلم. يقول سراقة: فقلت له -سراقة يقول للرسول عليه الصلاة والسلام- إن قومك قد جعلوا فيك الدية. وأخبرتهم أخباراً ما يريد الناس بهم. سبحان الله! خرج في أول الأمر باحثاً عنهم وما عاد إلا وهو دالاً لهم مخبراً لهم عن كل ما يريدون ان يبحثوا أو ان يسألوا عنه سبحان من بيده القلوب! وسبحان من بيده الأمور! ولو تدبرنا هذه اللطائف لعلمنا يقيناً أن الأمر كله لله وأنه لا تستطيع قوة علي وجه الأرض ان تملك لك ضراً ولا نفعاً إلا بأمر الله تبارك وتعالي. لا يستطيع أحد ان يضرك أو ينفعك إلا إذا شاء الله جل وعلا. والله العظيم لو جلس بليغ أديب حوي كل مفردات اللغة ليجسد هذا الحب الفياض وهذا الحنان الغامر من الصديق لرسول الله والله ما استطاع. كمية من اللبن! يطلب منه ان ينفض الضرع وينفض يديه قبل ان يحلب وبعدها يحضر إناء ويضع عليه شيئاً لينزل اللبن في الاناء من خلال هذا الشاش أو الفلتر حتي ينزل اللبن صافياً من أي أذي أو قذي يصل إلي حلق حبيبه رسول الله. ثم يقوم بصب الماء علي أسفل الإناء ليبرد اللبن للنبي. هل تعيش هذا الموقف؟! اللبن ساخن في الصحراء وينزل من الضرع ساخن فيصب الماء علي اسفل الإناء ليبرده للنبي عليه الصلاة والسلام.. يا الله! قال: ثم أتيت رسول الله فوافيته قد استيقظ. لا يوقظه هو وإنما يتركه ليستيقظ بنفسه. فقلت: اشرب يا رسول الله. قال: فشرب حتي رضيت أي شرب الرسول صلي الله عليه وسلم حتي رضي الصديق بأن حبيبه قد روي صلي الله عليه وسلم. فقلت: هل آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: نعم -صلي الله عليه وسلم- قال: فارتجلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك علي فرس له فقلت له: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال: لا تحزن إن الله معنا حتي إذا دنا منا سراقة فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين. فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت. قال: لم تبك يا أبا بكر. قال: أما والله لا علي نفسي أبكي ولكن أبكي عليك فدعا رسول الله علي سراقة وقال: "اللهم اكفناه بما شئت" فساخت قوائم فرسه إلي بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ان ينجيني مما أنا فيه فوالله لأعمين علي من ورائي من الطلب. وهذا كنانتي فخذ منها سهماً فأنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك. قال: فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا حاجة لي فيها. قال: ودعا له رسول الله صلي الله عليه وسلم فأطلق فرجع إلي أصحابه. يقول الصديق: ومضي رسول الله صلي الله عليه وسلم وأنا معه. يا تري ماذا بعد سراقة؟ وماذا بعد ذلك؟ هذا ما نتعرف عليه في المقال القادم. واسأل الله ان يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.