يقع الكاتب في حيرة بالغة حين يهم بتسجيل سيرة فياحة لعظيم من عظماء التاريخ إذ يجد أمامه مواقف رائعة تتطلب البسط والتحليل وقضايا هامة توجب الشرح والتدليل والمقام بعد لا يتسع لغير النظرة العاجلة والتعليق الطائر فرجل كصلاح الدين الايوبي يرهق مؤرخه إرهاقا عسيرا إذا تحدث بإيجاز عن روائعه وخوارقه فيضطر اضطرارا إلي رسم الخطوط البارزة تاركا وراءها من الدقائق ما لا يتسع المجال لتوضيحه وتفصيله وفي نفسه اعتراف صارخ بالاقتضاب الجائر وحسبه أن يعلن ذلك لقارئه فيستريح.. لقد تعددت مظاهر البطولة لدي صلاح الدين فهو شجاع باسل يقابل الموت بابتسامة مطمئنة فيصرعه مسلحا بكفايته وموهبته وهو سياسي ألمعي يستشف الحوادث في حجبها المستترة قبل أن تسفر عن وجهها الصريح فيأخذ لكل أمر عدته ويعد لكل موقف أهبته ويشرئب إلي مثل عليا يتنزل بها القرآن الكريم ويباركها الهدي النبوي الشريف وهو بعد رجل قدر له أن يقود الإسلام في حرب مقدسة يتكالب عليها الغرب بملوكه وبجيوشه ودوله وأسلحته! وقد كابد صعابا هائلة إيمانا بدينه ووطنه وأعطي أعداءه دروسا بالغة جعلتهم يتحدثون عنه فيطيلون فصلاح الدين كان ولايزال مادة خصبة لمؤرخي الغرب وأدبائه فهم يتتبعون مواقفه محللين ويلاحقون جهوده مفسرين منذ قدر له أن يقوم بدوره البطولي إلي اليوم وأترك قليلا كتاب التاريخ وعلماءه ممن يتمسكون بالوقائع ويستشهدون بالحوادث ثم انظر إلي أصحاب الخيال من الشعراء والقصاص فقد اتخذوا من حياة البطل الإسلامي مادة دسمة تسعفهم بالمناظر المشوقة والمواقف المدهشة وقد صحب الإنصاف كثيرا من أقلامهم فسجلوا مروءته وسماحته تسجيلا يتردد صداه في صحائفهم المتتابعة أما بطولته الخارقة فلم يجرؤ أشد الأعداء اضطغانا علي الإسلام أن يحوم حولها بشبهة موهومة أو يغلفها بستار خادع فاندفع كتاب أوروبا يسجلون للبطل نعمة الله عليه إذ وهبه الإقدام الجريء والقيادة الرشيدة والبطولة الجبارة وأذكر أني قرأت قصة "لبوكاشيو" في كتابه "ديكامرون" فلم يكتف كاتبها بإثبات سيطرة صلاح الدين علي الإنس وحدهم بل جعل الجن أيضا يمتثلون أمره ويخافون عقابه فهو سليمان آخر يأمر وينهي كما يشاء ولم ينس المؤلف أن يلم بأخلاق البطل المثالية فقد تحدث عنها حديث العدل والإنصاف ومهما امتزج الحق بالاسطورة في قصة "بوكاشيو" فإنها تحمل بذور الواقع السافر وتوميء بعناصرها الحية إلي الحق الصريح وحسبنا ذلك. لقد تربي صلاح الدين في كنف نور الدين فورث عنه كثيرا من خلاله الباهرة ومزاياه الحميدة ورث عنه التقشف الزاهد والبعد النارح عن الترف والملاذ والاقتصار فيما يأكل ويلبس علي الضروري اللازم مما يقيم الأود ويدفيء الجسم وقد وفد عليه بعض أعدائه في سفارة سياسية فوجده في خيمة صغيرة يجلس علي بساط متواضع وبين يديه مصحف وعلي جانبه سيفه وقوسه فقال السفير في نفسه لا شك أن هذا الرجل موفق منصور فقد تركت خصومه علي طنافس الحرير يشربون الخمور ويدقون الطبول وينتهكون المحرمات ولن يهزم عاص مطيعا. وهذا ما كان فقد انتصر صلاح الدين علي أعدائه بمراقبة ربه وامتثال أوامر دينه واجتناب ما هو محرم من الله فكان أسوة حسنة ومثلا يضرب للناس. وإنك لتدهش دهشة غريبة حين تجد كاتبا جامعيا مسلما يخالف ما توافق عليه المؤرخون فيقول عن صلاح الدين: لا يكاد يتشمم ريح خطر من ناحية إلا تغيرت نفسه وغاضت فيها عيون الحلم والصبر وكانت مشروعاته ومطالبه متعددة لا تنتهي فكانت حاجته للمال لا تنتهي وكان عماله واجباته من أقسي خلق الله علي الناس ما مر ببلدة تاجر إلا قصم الجباة ظهره وما بدت علي إنسان علامة من علامات اليسار إلا أنذر بعذاب من رجال السلطان وكان الفلاحون والضعفاء معه في جهد ما أينعت في حقولهم ثمرة إلا تلقفها الجباه ولا بدت سنبلة قمح إلا استقرت في خزائن السلطان حتي أملق الناس في أيامه وخلفهم علي أبواب محن ومجاعات حصدت الناس حصدا يقول الدكتور الجامعي ذلك مع أن صلاحا قد أخذ من مال الفداء يوم المقدس مائتي ألف دينار وعشرين ألفا فوقها ففرقها علي العلماء والأمراء والفقراء وأطلق كثيرا من الفقراء بدون فداء وأغضي عن جواهر الصليبيين وحليهم فلم يعرض لها بسوء مما لا يصدر عن أرقي رجل مهذب في القرن العشرين.