القومي للمرأة ينظم لقاء تنسيقي مع محافظة القاهرة    عيار 21 مفاجأة.. تراجع كبير في أسعار الذهب اليوم بالتعاملات المسائية    بالصور.. تنفيذ إزالة على الرقعة الزراعية بقرية تفهنا العزب بزفتى    إيران لمجلس الأمن: استهداف إسرائيل دفاع عن النفس    إيران: إحالة 28 متهمًا في 15 قضية متصلة بإسرائيل إلى النيابة العامة    ليتوانيا تبدأ إجلاء مواطنيها من إسرائيل برًا مع تصاعد التوترات مع إيران    زيلينسكي يطالب خلال زيارته لفيينا بفرض المزيد من العقوبات على روسيا    كأس العالم للأندية| تشكيل تشيلسي لمواجهة لوس أنجلوس    وفاة مسن داخل مطار القاهرة إثر أزمة قلبية مفاجئة    مقتل فتاة بإحدى قرى كفر الشيخ في ظروف غامضة    ذكريات تترات الدراما المصرية تشعل مشاعر الحنين فى حفل كامل العدد بالأوبرا    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على محاولات إسرائيل تدمير البرنامج النووي الإيراني    معتز هشام يكشف تفاصيل دوره في مسلسل«ابن النصابة»    بعد العيد.. 5 مشروبات طبيعية تساعدك على استعادة رشاقتك بطريقة صحية    تأجيل محاكمة 11 متهما بالانضمام لجماعة إرهابية فى الجيزة ل8 سبتمبر    نراهن على شعبيتنا.. "مستقبل وطن" يكشف عن استعداداته للانتخابات البرلمانية    وزير الثقافة: تدشين منصة رقمية للهيئة لتقديم خدمات منها نشر الكتب إلكترونيا    وائل جسار يجهز أغاني جديدة تطرح قريبا    "كوميدي".. أحمد السبكي يكشف تفاصيل فيلم "البوب" ل أحمد العوضي    ما الفرق بين الركن والشرط في الصلاة؟.. دار الإفتاء تُجيب    وزير خارجية إيران: مكالمة من ترامب تنهي الحرب    طبيب يقود قوافل لعلاج الأورام بقرى الشرقية النائية: أمانة بعنقي (صور)    العثور على جثة شاب مصاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالفيوم    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال إنشاء مجلس مدينة السنبلاوين والممشى الجديد    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد بنقابة المنوفية.. ويطالبهم بالتسلح بالفكر والعلم    لمست الكعبة أثناء الإحرام ويدي تعطرت فما الحكم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ما هي علامات عدم قبول فريضة الحج؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى يوضح حكم الجمع بين الصلوات في السفر    وزير العمل يستقبل المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب- صور    سي إن إن: إيران تستبعد التفاوض مع واشنطن قبل الرد الكامل على إسرائيل    البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب16.5 مليار جنيه بسعر فائدة 22.70%    إلهام شاهين توجه الشكر لدولة العراق: شعرنا بأننا بين أهلنا وإخواتنا    مفوض الأونروا: يجب ألا ينسى الناس المآسي في غزة مع تحول الاهتمام إلى أماكن أخرى    البنك التجارى الدولى يحافظ على صعود المؤشر الرئيسى للبورصة بجلسة الاثنين    «لترشيد استخدام السيارات».. محافظ قنا يُعّلق على عودته من العمل ب «العجلة» ويدعو للتعميم    تقرير يكشف موعد خضوع فيرتز للفحص الطبي قبل الانتقال ل ليفربول    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    التضامن تعلن تبنيها نهجا رقميا متكاملا لتقديم الخدمات للمواطنين    افتتاح توسعات جديدة بمدرسة تتا وغمرين الإعدادية بالمنوفية    وفود دولية رفيعة المستوى تتفقد منظومة التأمين الصحي الشامل بمدن القناة    بعد عيد الأضحى‬.. كيف تحمي نفسك من آلالام النقرس؟    تخفيف عقوبة 5 سيدات وعاطل متهمين بإنهاء حياة ربة منزل في المنيا    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    إيراد فيلم ريستارت فى 16 يوم يتخطى إيراد "البدلة" في 6 شهور    تصنيف الاسكواش.. نوران جوهر ومصطفى عسل يواصلان الصدارة عالمياً    محمد عمر ل في الجول: اعتذار علاء عبد العال.. ومرشحان لتولي تدريب الاتحاد السكندري    «فيفا» يوجه رسالة جديدة للأهلي وإنتر ميامي بمناسبة افتتاح المونديال    وزير الصناعة والنقل يشهد توقيع عقد ترخيص شركة "رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري"    لا تطرف مناخي.. خبير بيئي يطمئن المصريين بشأن طقس الصيف    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    أسعار الأسماك بكفر الشيخ اليوم.. البلطي ب 80 جنيها    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    إصابة 3 أشخاص بطلقات بندقية فى مشاجرة بعزبة النهضة بكيما أسوان    أمن الجيزة يضبط المتهمين بسرقة كابلات شركة فى كرداسة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    إمام عاشور: ما حدث ليس غريبا على بيتي الأهلي.. وسأعود أقوى    الشرطة الإيرانية: اعتقال عميلين تابعين للموساد جنوب طهران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما سقط الأفوكاتو حنفي في الانتخابات
نشر في القاهرة يوم 02 - 11 - 2010

كان صديقي الدكتور عمر مكاوي، وهو طبيب ومناضل ومترجم أول من تنبأ- قبل أربعين سنة- بأن التقدم المذهل في العلوم والتكنولوجيا، سيقضي علي أسطورة الرجال الأقوياء والموهوبين، بنهاية القرن العشرين، وان القرن الحادي والعشرين سيكون قرن الرجل العادي والمرأة العادية، وحذرني من مواصلة الاهتمام بقراءة سير العباقرة والأبطال من الرجال والنساء، أو الكتابة عنهم، حتي لا تبور بضاعتي.
ومع أنني تشككت في نبوءته، فإنني علي سبيل الاحتياط قررت أن أحافظ علي مجموعة من الكتب تروي مذكرات عادية، لرجال عاديين كانت تزحم مكتبتي، وأن أطرد الشيطان الذي كان يوسوس لي بين الحين والآخر، بأن أتخلص منها لتفسح مكاناً لغيرها من مذكرات وسير الأبطال التي شغفت بقراءتها واقتنائها، لعلها تفيدني بشيء حين يأتي الزمان الذي تنبأ به عمر مكاوي.
ولا أتذكر علي وجه الدقة، الظروف التي انتقلت فيها هذه الكتب إلي مكتبتي والغالب أنني عثرت علي بعضها وأنا أقلب بين رفوف الكتب في بيوت أصدقائي وعلي غير العادة أعاروني إياها ولم يهتموا بالإلحاح في استردادها، وأنني اشتريت الباقي من أسواق الكتب القديمة، وأن أصحابها في الحالتين لم يسمعوا نبوءة عمر مكاوي، أو سمعوا بها ولم يصدقوها وإلا ما تخلصوا من كتب تروي سير رجال ونساء، سيصنع أمثال لهم تاريخ القرن الحادي والعشرين.
أما المؤكد فهو أنني شغفت باقتناء هذه الكتب واستمتعت بقراءتها علي الرغم من أن معظمها نشره أصحابه علي نفقتهم الخاصة، مما يدل علي أنهم لم يجدوا ناشراً يقامر بأمواله في نشر ما كتبوه، ومن أن معظمهم لم يكن كاتبا له اسم في سوق الكتابة والتأليف، ربما لم يؤلف غير هذا الكتاب الوحيد الذي يروي فيه سيرة حياته، التي تقرأها فلا تجد فيها شيئاً غير عادي، مما يدفعك للتساؤل عن الدافع الذي دفع صاحبها لكتابتها مع أنه لم يقم بأي عمل فذ وأن سير حيواتهم، لا تختلف عن سيرة حياتك أنت نفسك.
من بين هذا النوع من التأليف مذكرات كانت تنشر علي صفحات المجلات الأسبوعية الشعبية، التي نشطت في العقود المتوسطة من القرن الماضي لحفز أصحابها علي روايتها لأحد محرري المجلة، ليقوم بصياغتها ونشرها متسلسلة علي صفحاتها، فلقيت إقبالا من القراء دفعت هذا النوع من المجلات للتنافس في البحث عن نماذج بشرية تنتمي إلي مهن وتشكيلات اجتماعية، لم تكن تعني عادة بنشر شيء عنها، لكي تستنطقها وتشجعها علي رواية سيرة حياتها، ثم تطرحها بعد ذلك في كتب شعبية بعناوين مثل «مذكرات عربجي» و«مذكرات نشال» و«مذكرات سائق قطار» «مذكرات فتوة»، فضلاً عن مذكرات كتبها عشرات من ضباط الشرطة، ومأموري مراكزها في الريف عن مغامراتهم مع اللصوص، ومذكرات لصوص الخزائن، والمغامرين الذين حاولوا سرقة البنوك.
ولعل هذا النوع من المذكرات، هو الذي أوحي للكاتب الكبير توفيق الحكيم، لتأليف كتابه الشهير «ذكريات نائب في الأرياف» الذي روي فيه جانياً من ذكرياته حين كان يعمل - في مقتبل حياته- وكيلاً للنائب العام في بعض قري الريف، ولعل الاستقبال الحافل الذي لقيه هذا الكتاب عند نشره في ثلاثينات القرن الماضي، كان وراء ازدهار هذا النوع من كتابة المذكرات أو الصور الاجتماعية- مع الفارق بالطبع بين كاتب محترف بقامة توفيق الحكيم، وبين رواة أو صائغي هذا النوع من الكتابات، من محرري الصحف الشعبية.
وبصرف النظر عن الطابع الشعبي لهذا النوع من المذكرات، ومن الأسلوب التلقائي وغير المنمق الذي كتبت به، فإن أهميتها البالغة تكمن في أنها احتفظت لنا بصور ونماذج وتقاليد وعادات ومهن وتشكيلات اجتماعية، اختفت من حياتنا، من دون أن يعني أحد بتسجيلها، ولولا أن الرحالة الأجانب الذين زاروا مصر- والبلاد العربية- في العصور الوسطي، وفي مطلع القرن التاسع عشر، وحرصوا علي أن يرصدوا ما كان سائداً فيها من عادات وتقاليد وخرافات وآداب شعبية وحرف وصناعات- كما فعل علماء الحملة الفرنسية في كتابهم «وصف مصر» وكما فعل المستشرق الإنجليزي «إدوارد وليم لين» في كتابه «المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم» لما عرفنا الكثير عن المجتمع المصري في ذلك الزمان، ولما عرفنا أصول بعض ما لا يزال يمارسه من عادات وتقاليد، وأحياناً ألفاظ ومصطلحات حتي الآن.
ولولا هذا النوع من الكتب لافتقدنا لمصادر بالغة الأهمية لتاريخ مصر الاجتماعي، فخلال النصف الثاني من القرن العشرين، ومع تسارع إيقاع التغير الاجتماعي، اختفت أو كادت مهن وعادات وتقاليد وتشكيلات اجتماعية كانت بقاياها لا تزال قائمة.
اختفي الطربوش الذي كان القانون يفرض علي كل طالب في المدارس أو موظف في الحكومة، أن يضعه علي رأسه باعتباره رمزاً قومياً، حتي ان مصر كلها شاركت في الثلاثينات في مشروع قومي لجمع قرش من كل مواطن لبناء مصنع وطني لصناعة الطرابيش، انطلاقاً من أنه لا يليق بها أن تستورد رمزها القومي من الخارج، وأن يصنع لها الآخرون غطاء الرأس الذي كان بمثابة رمز للوطنية، واختفت باختفائه محلات غسيل وكي الطرابيش التي لم يكن يخلو منها شارع في القاهرة والمدن الأخري، واختفت معه الأغاني التي كانت تتغزل فيه، والبروتوكولات التي كانت تتعلق به، والعقوبات التي كانت توقع علي الموظف الذي يدخل علي رئيسه بدون طربوش، أو الطالب الذي يدخل مدرسته عاري الرأس.
واختفي «السقا» الذي كان يحمل المياه في قربة من جلد الماعز علي ظهره، ويطوف بالبيوت والمقاهي والورش، ليصبها في زير فخاري ويضع علامات بالطباشير علي الحائط المجاور له بعدد القرب التي وردها لكي يحاسب المستهلك في نهاية الشهر علي ثمنها، بعد أن وصلت المياه النقية إلي البيوت واختفت باختفائه، الورش التي كانت تصنع القرب وتصلح عيوبها، والحنفيات العمومية التي كان السقا يملأ منها القرب، ونسي الناس سبب تسمية إحدي حارات القاهرة باسم «حارة السقايين» أو أصل لقب أسرة الفنان اللامع «أحمد السقا».
وتوقف- منذ عام 1960 - المحمل الشريف، لذي كان يحمل كسوة الكعبة المشرفة من مصر إلي الديار الحجازية، وكانت منذ العصور الوسطي، تصنع في إدارة خاصة لهذا الغرض، يعمل فيها مئات من النساجين والخياطين والمطرزين والخطاطين والصباغين لشهور متصلة، حتي يقوموا بإعداد الكسوة، وكان يوم سفرها إجازة رسمية، واحتفالية شعبية، يشترك فيها جلالة الملك بذات نفسه، ويشرفها كبار رجال الدولة.
أهمية هذا النوع من الكتب هو أنه يحتفظ لنا بما لم نعن بتسجيله من التاريخ الاجتماعي لمصر، وأنه يحفزنا لكي نقوم بتسجيل هذا التاريخ، وجمعه وتحليله، والبحث في أسباب تطوره، وفي أي اتجاه يتطور.
أما وقد أوشك العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من دون أن نفعل ذلك، فلا معني لذلك إلا أن نبوءة د. عمر مكاوي بأن هذا القرن سيكون قرن الرجل العادي والمرأة العادية لم تتحقق بعد.
من بين كتب السير الذاتية التي كتبها أشخاص عاديون، ممن يوصفون في المصطلح القانوني ب «آحاد الناس» عثرت في مكتبتي علي كتاب بعنوان «سقطت في الانتخابات» ألفه الأستاذ «حنفي محمود جمعة» المحامي الذي رشح نفسه في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في يناير 1945، علي مبادئ «الحزب الوطني» - وهو الحزب الذي أسسه في عام 1907 الزعيم مصطفي كامل باشا وحُلَّ عام 1953- وكانت تلك أول- ولعلها آخر- مرة يرشح فيها نفسه للانتخابات الذي كان دافعه لخوضها الأحلام التي ناوشته وهو يدرس في كلية الحقوق، في أن يجلجل صوته تحت القبة، دفاعاً عن حقوق الشعب، لتكون تلك هي الخطوة الأولي، في الطريق الذي ينتهي بانتقاله من موقع «آحاد الناس» إلي خانة عظماء الرجال الذين يشار إليهم بالبنان.
لكن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن، وسقط الأستاذ حنفي في الانتخابات سقوطا ذريعاً، بعد شهرين من المجهودات الشاقة والتجارب المريرة، يبدو أنها ظلت تضغط عليه بقوة، حتي دفعته بعد أسبوعين فقط من ظهور نتيجة الانتخابات إلي الجلوس إلي مكتبه ليدون ذكرياته عنها، في هذا الكتاب الذي نشره علي نفقته وصدر في مايو 1945، أي بعد أقل من أربعة أشهر علي سقوطه المدوي، وحرص علي أن يوقع بخط يده، علي كل نسخة منه، توهما منه، بأن القراء الذين ضن عليه بعضهم بأصواتهم في صندوق الانتخابات سيتخاطفون نسخه، مما قد يغري طابعاً أو ناشراً، بإعادة طبعه من دون التعاقد معه، والغالب أن الذين ضنوا عليه بأصواتهم، قد ضنوا عليه بقراءة ما كتبه، وأنه اضطر إلي بيع الكتاب بالكيلو، ولولا ذلك لما عثرت علي مئات من نسخه بعد خمسة عشر عاماً من صدوره، لدي كل باعة الكتب القديمة علي سور الأزبكية.
لكن المعاملة غير الكريمة التي لقيها «الأستاذ حنفي» من ناخبي دائرة «باكوس» بالإسكندرية- وهي الدائرة التي ولد فيها وأمضي فيها طفولته، واختارها لهذا السبب لكي يرشح نفسه ممثلاً لها في مجلس النواب، والاستقبال غير الودي الذي لقيه كتابه الوحيد «سقطت في الانتخابات» لا ينفي ان الكتاب مهم، وان الأستاذ حنفي يستحق التحية، لأنه تنبه لأهمية أن يسجل تجربته الانتخابية في كتاب، ولأنه أحسن اختيار التفاصيل والنماذج التي يعرضها، بحيث تكون ذات دلالة علي ما أراد أن يقوله.
ولأن مؤلف الكتاب الأستاذ «حنفي جمعة»- في حدود علمي- ليس من الشخصيات التي وردت أسماؤهم في معاجم الأعلام، ودوائر معارف الشخصيات البارزة، فليس في ذكرياته عن وقائع سقوطه في الانتخابات علي أية أعمال خارقة، مما يوجب تسجيله في مدونة جينس للأرقام القياسية، لكنه- ككل السير الذاتية التي يكتبها آحاد الناس- يقدم لنا صورة اجتماعية واقعية لظاهرة الانتخابات العامة، علي النمط المصري، وإلي حد ما، العربي - تستحق التأمل وتطرح الكثير من علالمات الاستفهام والتعجب.. والانتخابات البرلمانية التي أجريت في 8 يناير 1945 في أعقاب إقالة حكومة حزب الوفد المعروفة بحكومة 4 فبراير 1942، لتحل محلها حكومة اشتركت في تأليفها أحزاب الأقلية المعادية للوفد، ليكون أول ما فعلته هو أن حلت مجلس النواب الذي كان قائماً، لأن أغلبيته كانت وفدية، ودعت إلي انتخابات جديدة، قاطعها الوفد، وقررت الأحزاب المشاركة في الحكومة، أن تخوضها مؤتلفة، واتفقت علي تقسيم الدوائر فيما بينها، وكانت تلك أول مشكلة واجهت الأستاذ حنفي، إذ اتفقت الأحزاب المؤتلفة، أن تكون دائرة باكوس من نصيب مرشح لحزب آخر، غير «الحزب الوطني» الذي ينتمي إليه، وبذلك فقد الدعم السياسي الذي كان يمكن أن يقدمه له الائتلاف، بما في ذلك دعم الحزب الوطني نفسه لكن تلك لم تكن سوي أبسط الصعوبات، أما أعقدها فكانت مجموعة الظواهر والتقاليد الاجتماعية التي تراكمت عبر السنوات وترسخت في الوجدان الشعبي، وحولت العملية الانتخابية إلي موسم تتشكل خلاله بصورة تلقائية جماعات اجتماعية مؤقتة، تضم عاطلين أو عمالاً موسميين أو موظفين يبحثون عن عمل إضافي، ينقسمون إلي فرق عمل تشمل سماسرة الانتخابات الذين يدعون قدرتهم علي جلب الأصوات الانتخابية، والفتوات الذين يحمون أو يقودون المواكب الانتخابية، أو يقومون بالغارات ضد مواكب المرشحين المنافسين، وخبراء الدعاية من الخطباء الذين يحترفون الخطابة في المقاهي والسرادقات ويصطنعون للمرشح تاريخا لا يعرفه، ومواهب ومواقف لا صلة له بها إلي متعهدي توريد وتعليق اللافتات والملصقات، ومن أصحاب المقاهي في الدائرة التي تتخذ مقراً للدعاية ولحشد الأنصار، إلي قسم المخابرات الذي يجمع الأخبار والمعلومات عن نشاط المرشحين المنافسين ويجرون استطلاعات رأي انطباعية عن اتجاهات الرأي العام في الدائرة تجاه المرشحين.
وبعد أيام من بداية الحملة الانتخابية اكتشف الأستاذ حنفي أنه لا أحد من أهالي الدائرة تعنيه الانتخابات، غيره هو وأسرته وأصدقائه المقربين، وأن المهتمين بها، ممن يحيطون به، وبغيره من المرشحين، لم يفعلوا ذلك، اقتناعاً بأهلية المرشح للدفاع عن مصالح الوطن، أو مطالب أهل الدائرة، أو ثقة منهم في أنه الأصلح من غيره للقيام بهذه المهام، لكنهم باحثون عن صاحب عمل يستأجرهم طبقاً لقانون العرض والطلب يختارونه استناداً إلي مقاييس لا صلة لها برأيه السياسي أو أهليته للموقع الذي يرشح نفسه له، بحيث يكون الأوفر سخاء والأقل مساومة ومحاسبة فيما يطلبونه من أجور، وفي مراجعة ما يقدمونه إليه من كشوف بما أنفقوه من مصروفات علي ما تتطلبه الحملة، من امكانات بشرية ومادية، من أثواب القماش التي تصنع منها اللافتات، إلي الإعلانات التي تطبعها المطابع، ومن الهتيفة إلي أصحاب المقاهي، ومن الشخصيات النافذة التي تعرض للبيع تذاكر انتخابية، يستخدمها المرشح لحسابه، أو تعرضها مع الناخبين الجاهزين للحلول محل أصحابها الأصليين في الإدلاء بأصواتهم لصالحه.
ما لفت نظري أنني لم أجد في تجربة الأستاذ حنفي الانتخابية التي جرت قبل 65 سنة بالتمام والكمال، وفي مناخ سياسي واجتماعي مختلف، ما يدعو لدهشتي، أو ما يختلف عما شاهدته وعرفته وقرأت عنه، خلال ما عاصرته من انتخابات أجريت فيما بعد، علي الرغم من التقلبات والتطورات التي شهدتها مصر خلال ما يقرب من سبعة عقود، تحولت خلالها من ملكية إلي جمهورية، انتقلت من الإقطاعية إلي الاشتراكية، ثم إلي الرأسمالية، وتضاعف خلالها عدد خريجي الجامعات أكثر من 20 مرة، وانخفض عدد الأميين إلي أكثر من النصف، واختفت ظواهر اجتماعية كثيرة، فلماذا ظلت الظواهر والتقاليد الانتخابية ثابتة علي ما عليه؟ ولماذا تبدو مذكرات الأستاذ حنفي وكأنها كتبت اليوم؟ ولماذا يتصرف الناخبون في كل انتخابات، علي أساس أن المرشح الذي يطلب ثقتهم لا يتطوع للقيام بخدمة عامة، بل يسعي لمصلحة شخصية، سوف تعود عليه بمكاسب مادية أو معنوية؟ وبالتالي فإن عليه أن يصرف مقدماً، جانباً من هذه المكاسب علي الذين سيشاركون في تحقيقها له بمنحه أصواتهم؟
تلك أسئلة تطرحها ظاهرة سقوط الأستاذ حنفي في الانتخابات، لأنه عجز عن أن يصرف مقدماً للناخبين جانباً من ثمن العظمة التي كان سيحققها لو نجح، وهي أسئلة تحتاج إلي البحث عن إجابات، وليس من بينها القول بأننا - نحن العرب- شعوب لا تصلح للديمقراطية ولا تستحق الانتخابات الحرة النزيهة.
وكان هذا هو السبب الذي شجعني علي أن أدفع هذا الكتاب الذي ربما كنت الوحيد الذي أملك نسخة منه للنشر.. بمناسبة بدء موسم الانتخابات.. لعلك تجد فيه عزيزي القارئ.. مايسليك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.