عقد جمال عبد الناصر اجتماعا في منزله ضم جميع العسكريين من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وامتد الاجتماع إلي ثماني ساعات متواصلة شهد خلالها مناقشات مشحونة بالسخونة.. وتعد هذه الجلسة من أخطر الجلسات التي كشفت عن حقيقة نوايا عبدالناصر واتجاهاته في حكم البلاد. جرت مناقشات حول الحرية.. وحرية الصحافة بشكل خاص، خاصة أن الرقابة علي الصحافة لم تقتصر علي الأخبار العسكرية التي تمس سلامة وأمن الدولة.. بل إنها تعدت لتشمل التافه من الأمور. وجري نقاش حول ضمانات الحرية، وطالب البعض بأنه يجب أن يكون الضمان الحقيقي للحرية مكتوبا في دستور. وتطوع عبدالحكيم عامر بالكلام قائلا: »إحنا ضمانات الحرية«! وناقش كمال الدين حسين في هذه الجلسة (الميثاق الوطني) الذي صدر في عام 1962، ووصفه بأن له وجهين: وجها ماركسيا والوجه الآخر إسلامي عربي، وأنه يعترض علي اندفاع البلاد في الاتجاه إلي الشيوعية.. وسأله عبدالناصر عما يريده، فذكره كمال الدين حسين بما جاء في الميثاق من سيطرة الدولة علي وسائل الإنتاج فقط وليست ملكيتها. وهنا ضحك عبدالناصر ساخرا معلنا حقيقة نواياه قائلا: يا أبو كمال هكذا كان يناديه هل هناك سيطرة بدون ملكية.. إنني لن أتراجع عن التطبيق الاشتراكي حتي لو وصل الأمر إلي تأميم كل المحلات والورش الصغيرة. ونطق كمال الدين حسين بكلمتين تعبران عن عدم اقتناعه بما قاله عبد الناصر وعدم قدرته علي تحقيق ما في خياله.. قال له: - في المشمش تقدر تعمل كده.. وفي المشمش تعبير شعبي يردده الناس عن الشيء غير الممكن تحقيقه. وقال له عبدالناصر: أيهما تفضل يا أبو كمال: عبود أو ستالين.. وكان يعني بذلك الرأسمالية ويرمز لها بعبود باشا، أحد أصحاب الملايين قبل قيام الثورة.. والنظام الشيوعي رامزا له بستالين. ورد عليه كمال حسين بذكاء قائلا: - كأنك تسألني أيهما أفضل: الشيطان.. أم إبليس.. فكلاهما لاشك مر.. وعلينا أن نطبق ما جاء في كتاب الله وسنة الرسول([) عن الاشتراكية. استمرت تلك الجلسة ثماني ساعات من الساعة الثانية عشرة ظهرا تقريبا وحتي الساعة الثامنة مساء.. وتوجه الجميع إلي سرادق العزاء.. وكان كمال الدين حسين قد أنهي اشتراكه في المناقشة بأن أخذ يردد لهم: (لكم دينكم ولي دين).. وأنا لن أستمر في الاشتراك بدفع البلاد إلي هوة الشيوعية. مقال برافدا ويواصل كمال الدين حسين روايته ويقول: - هذه ترجمة عربية لما نشرته جريدة برافدا السوفيتية بعد أن أصدر عبد الناصر الدستور المؤقت لسنة 1964. كانت الترجمة تحتوي علي شرح للمرحلة التي تمر بها مصر وأنها تشبه المرحلة التي كانت تمر بها روسيا في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات التي كانوا يعبرون عنها بمرحلة السياسة الاقتصادية الجديدة التي سمحوا فيها للبراجوازية الصغيرة أن تساهم في عمليات الإنتاج.. وامتدح المقال الدستور الجديد في مصر الذي نص علي الاشتراكية لأول مرة بدون إضافات لها كالاشتراكية العربية أو الاشتراكية الإسلامية.. وجاء في المقال أن جمال عبدالناصر تمكن من التخلص من عبداللطيف البغدادي وكمال الدين حسين اللذين طالما قاوما الإصلاح. ويضيف كمال الدين حسين: - وهكذا كنت علي حق عندما قاومت عبد الناصر في الانحدار إلي هاوية الشيوعية.. ومن الغريب أنه في نفس العام حضر خروشوف إلي مصر لحضور احتفالات السد العالي.. وأعلن تصريحه المشهور الذي أحدث أزمة.. فقد كان خروشوف وعبدالناصر والرئيس العراقي المرحوم عبد السلام عارف في حوار.. وفجأة قال خروشوف معلقا علي الوحدة العربية.. إنه لايفهم الوحدة العربية إلا علي أساس وحدة (الكالو) أي وحدة البلوريتاريا.. وأثار تصريحه غضب الرئيس المسلم المؤمن عبدالسلام عارف وانسحب غاضبا لأن تصريح الزعيم السوفيتي كان يعبر عن النوايا وهي أن تكون وحدة الأمة العربية تحت الراية الماركسية وأن هذا هو المفهوم الوحيد للقومية في القاموس الشيوعي. أخطر قوانين عبدالناصر وفي 25 مارس عام 1964 قرأ كمال الدين حسين في صحف ذلك اليوم كغيره من المواطنين العاديين القانون 119 لسنة 1964 وتاريخ صدور القانون اليوم السابق.. وقرأ بنوده وصرخ: - هذا ظلم .. فرعون نفسه لم يحكم البلاد بقانون مثل ذلك القانون.. وأخذ يهاجم القانون في كل مجلس من مجالسه.. كل من يزوره يندد أمامه بقانون عبدالناصر 119 لسنة 1964 وكانت خطورة القانون أنه يتضمن اعتداء صارخا لوثيقة حقوق الإنسان ولكافة المباديء الدستورية بل وللقوانين العادية. وسر هذه الخطورة أنه يخول لرئيس الجمهورية في غير الحالات الاستثنائية والطارئة المقررة في قانون الطواريء وبدون إبداء الأسباب أن يقبض علي المواطنين وأن يحتجزهم فيما أسماه بمكان أمين وأن يؤمن الحراسة علي أموالهم وممتلكاتهم، وأن يكون لسلطات التحقيق لدي تحقيقها في الجرائم التي تحال إليها طبقا لهذا القانون سلطات مطلقة وغير مقيدة بما ورد في قانون الإجراءات الجنائية عن قيود وضمانات للأفراد، كما يخول ذلك القانون لرئيس الجمهورية الحق أن يأمر بتشكيل محاكم استثنائية من العنصر العسكري الخالص لمحاكمة المواطنين وأعفي هذه المحاكم من أن تتقيد بأي قانون وحظر الطعن في أحكامها بأي وجه من الوجوه. وكان هذا سبب ثورة كمال الدين حسين علي القانون.. ومهاجمته له.. فهو قانون لا يصدره حاكم إلا إذا رأي أن يحكم البلاد بقانون ضد سيادة القانون ويقضي علي كل صوت يرتفع بكلمة (لا) أمام تصرفاته. وبمجرد صدور ذلك القانون تمت المحاكمة للآلاف من المواطنين الأبرياء وكان كل جرائمهم أنهم انتقدوا سياسة الحاكم.. وكانت عيون الحاكم تحيط بكمال الدين حسين تنقل إليه كل مايقوله.. وتسجل عليه كل آرائه.. وبدأ الكثيرون يحاولون إقناعه بالكف عن الكلام.. ولكنه استمر ينتقد وينتقد. استجواب حول القانون 119 ومر عام.. وفي مارس 1965 أجري استفتاء علي الدستور ورئيس الجمهورية.. وبعث الحاكم بعيونه إلي لجان الانتخاب المقيد بها زملاؤه من رجال الثورة ليعرف ما إذا ما كانوا اشتركوا في انتخابه أم عدلوا. ولم يذهب كمال الدين حسين.. وذهب عبداللطيف البغدادي إلي لجنته القريبة من مسكنه في مدينة نصر قبل موعد إغلاق الصناديق بربع ساعة.. وكان البغدادي هو الآخر من الذين رفعوا راية المعارضة ضد انفراد عبدالناصر بالحكم وقدم استقالته من مجلس الرئاسة لعدم استراحته لطريقة الحكم.. وظلت هذه الاستقالة سرا لم يعرف نصها إلا القليلون حتي كشف عنها البغدادي في شهادته أمام غرفة المشورة بمحكمة القاهرة يوم 29 يونيو 1975 عندما استدعي هو وكمال الدين حسين والدكتور نور الدين طراف للإدلاء بشهاداتهم عما إذا كان القانون 119 لسنة 1964 قد عرض علي مجلس الرئاسة، أما أن الحاكم أصدره بمفرده مدعيا موافقتهم مع بقية أعضاء المجلس عليه. وأكد الثلاثة أن القانون لم يعرض أصلا علي مجلس الرئاسة.. وأن الحاكم عبدالناصر فاجأهم بإصداره كما أعتاد أن يفاجئهم دائما بصدور غيره من القوانين أو اتخاذ إجراءات تتعلق بسياسة البلد دون عرضها عليهم كقيادة وكما ينص بذلك الإعلان الدستوري بتشكيل مجلس الرئاسة.. ولذلك عندما أعلن دستور 1965 وبدأ الاستفتاء علي رئاسة عبدالناصر للجمهورية.. رفض كمال الدين حسين أن يشترك مرة أخري في اختياره وبقي في منزله لايدلي بصوته.. أما عبداللطيف البغدادي فقد ذهب وأدلي بصوته موافقا علي اختياره رئيسا للجمهورية.. ويعلل البغدادي تصرفه هذا أنه قبل الذهاب إلي اللجنة أخذ يوازن بين إيجابيات عبدالناصر وسلبياته في الماضي.. فوجد أن كفة إيجابيات الماضي ترجح.. وأخذ يوازن بين كفته في المستقبل وكفته في الماضي فوجد أن يترك له فرصة فربما يعود إلي ما كان عليه في الماضي.. وأعطاه صوته. ويضيف البغدادي أنه سمع من محمد حسنين هيكل أن عبدالناصر لم ينم ليلة الاستفتاء إلا بعد أن علم نتيجة صناديق الاقتراع في لجنة البغدادي بعد أن وصله علم أنه أدلي بصوته وجاءت النتيجة 100٪ وتأكد أن البغدادي أعطاه صوته.. وفي اليوم التالي أصدر قرارا جمهوريا برفع الحراسة عن شقيقه سعد وأعاد له كافة ممتلكاته.. وكأن شيئا لم يحدث.. هكذا جاء نص القرار. مؤامرة لقلب نظام الحكم وفي سبتمبر 1965 كانت أجهزة المباحث الجنائية العسكرية التابعة للمشير عامر علي رأسها أحد أعوان شمس بدران وهو العقيد حسن خليل ادعت أنها كشفت مؤامرة يدبرها الإخوان المسلمون برئاسة المرحوم سيد قطب لقلب نظام الحكم بعد القيام بعمليات تخريب وتدمير واسعة في مختلف أنحاء البلاد.. وتم القبض علي الآلاف وزج بهم في السجون وبدأت عمليات تعذيب بشعة لهم للاعتراف بكل ما يملي عليهم.. وبدأت الهمسات تتناقل صورة ما يتم داخل السجن الحربي من أبشع ألوان التعذيب والامتهان لكرامة الإنسان. ولنشأة كمال الدين حسين الدينية.. وعندما وصلت إلي آذانه مايتعرض له الإخوان المسلمون من تعذيب سارع إلي إرسال رسالته الشهيرة (اتق الله) إلي عبدالناصر وبعث بصورة منها إلي المشير عامر. واعتبر الاثنان الرسالة اندماجا من كمال الدين حسين مع الإخوان المسلمين للإطاحة بهما خاصة أنه كان يوزع كتاب سيد قطب علي زواره.. وتم اعتقاله وتحديد إقامته في فيلا بالهرم.