عندما تفقع أعين القانون في أوقات الأزمات والثورات ويصبح عاجزا عن إنقاذ نفسه تقوم معاول الغدر وخفافيش الظلام بهدم كل ماهو جميل وأصيل من أجل حفنة من المال تسد جوع الورثة الفقراء الذين لايعرفون سوي مصلحتهم الشخصية. أما مصلحة بلادهم وأوطانهم التي تتمثل في الحفاظ علي نسيجه العمراني وتأصيل تاريخ عمارته بجميع طرزها وأشكالها فلا محل لها من الإعراب عند هذه الفئة التي أعماها الجشع لدرجة اغتيال الميراث الرائع للأجداد والآباء.. ولا يقتصر وجود هذه الفئة الناكرة للأصل والرافضة للتاريخ علي مدينة دون أخري، ولكنها منتشرة بطول البلاد وعرضها وكأنها جراد يجتاح الأرض فيأكل الباقي من الفيلات والقصور التاريخية الذي غفلت عنه عوامل الزمن من اندثار وانقراض.. وتقف أمام هذا الدمار الكاسح فئة من المصريين تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال وقفات احتجاجية للضغط علي المسئولين لتطبيق القانون الذي يقف عاجزا أمام سطوة المال والنفوذ، وقد تنجح هذه الفئة التي تؤمن بأن من ليس له ماض ليس له مستقبل وأن المعالم المادية للحضارة هي الدليل الملموس علي حدوثها. خلال حوار لي مع الدكتورة سهير حواس أستاذة العمارة ونائب رئيس جهاز التنسيق الحضاري قالت لي: هناك قضية خطيرة تحتاج من يكتب عنها فقد أرسلت لها الفنانة نيفين جاد المولي من خلال الفيس بوك معلومات هامة عن فيلا أثرية علي وشك الهدم في شارع المأمون بمحرم بك في الإسكندرية ويطلق عليها فيلا أمبرون وتم بناؤها عام 1920م وتسجل طرازا معماريا وتعكس أسلوب حياة، كان موجودا في مصر في أوائل القرن العشرين وباختفاء مبان كهذه تأخذ معها جزءا لايستهان به من تاريخنا لا يمكن تعويضه. وجاء بالرسالة أيضا أن الفيلا كانت ملكا لعائلة المقاول الإيطالي أمبرون وزوجته الفنانة التشكيلية أميلا وتتميز بوجود برج أثري بها علي شكل الطابية قديما ويجمع بين سمات القصر والفيلا ,كما تطل علي 3 شوارع (ش المأمون وش شيحة "الكنوز سابقا "وش النعم)، وكانت هذه الفيلا بها حديقة غنية بالأشجار والنباتات النادرة، ولكنها بيعت وشيد بدلا منها أبراج سكنية. كما ذكرت نيفين أن الفيلا سكنها فنانون أجانب من أشهرهم لورانس درايل الكاتب البريطاني الذي عاش فيها من 1942 إلي 1956م وكان مراسلا حربيا للجيش البريطاني وملحقا صحفيا أثناء فترة الحرب العالمية الثانية وقد استأجر الطابق العلوي من الفيلا الذي شهد ميلاد رباعيته التي تعتبر من أهم المؤلفات الأدبية في القرن العشرين وصدرت أجزاؤها في 1957م، وتتحدث عن مناطق الملاحات وشارع النبي دانيال وشارع التتويج وكوم الدكة وعمود السواري ومحطة مصر ومقابر الشاطبي. ومن الفنانين المصريين الذين سكنوا هذه الفيلا عفت ناجي وسعد الخادم وجاذبية سري. وتؤكد الدكتورة حواس أن ملاك هذه الفيلات تستغل فترة تغيير المحافظين وعدم وجود استقرار سياسي وتقوم بعمليات الهدم الكامل لها دون أية قرارات للهدم وإن كانت هذه الفيلا مسجلة ورفض التظلم الذي تقدم به أصحابها لهدمها وجهاز التنسيق الحضاري يعمل إنذارا ثم يرسل خطابا للمحافظة لمنع ذلك، ومايحدث فيها حاليا مخالف للقانون ما لم يجد جديد. وأشارت نائب رئيس جهاز التنسيق الحضاري إلي أن فيلا شيكوريل الواقعة في طريق الحرية رشدي الإسكندرية وصدر لها قرار 488لسنة 2012 من رئيس مجلس الوزراء بمنع هدمها وهي فيلا ذات طراز معماري فريد. وتضيف الدكتورة حواس ورغم ذلك تراث الإسكندرية يتعرض للهدم كل يوم وأيضا التراث المعماري الرائع والثري للقاهرة والقليوبية والجيزة يهدم ويحرق، وتحترق معه قلوبنا، فنحن نقف عاجزين أمام كل ذلك، فليس لدينا صفة الضبطية القضائية والقانون وحده ندافع به ونحاول أن نستعين بالإعلام فهو وسيلة لكشف الفوضي والتخريب. وكانت الدكتورة سهير حواس قد أوصتني بالحديث مع الدكتور سمير غريب رئيس جهاز التنسيق الحضاري للوقوف علي الجديد في موضوع فيلا أمبرون ولكن بمجرد ذكر اسمها.. فاجأني الدكتور غريب باسم فيلا أخري وأيضا توجد في الإسكندرية ولها ملف كبير في الجهاز وتتشابه حتي في الاسم وهي فيلا أجيون المسجلة طبقا لقانون 144 لأن لها قيمة تاريخية ,وعنوانها 75 شارع أحمد إسماعيل باب شرق الإسكندرية، ومحافظها في عام 2011 طلب نزع ملكيتها لصالح وزارة الثقافة لإقامة مركز ثقافي فيها ووزير الثقافة في ذلك الوقت الدكتور عماد غازي عرض الجواب علي المستشار القانوني للوزارة، الذي وافق علي إجراءات نزع ملكية الفيلا وطلب أيضا تسجيلها كأثر في المجلس الأعلي للآثار وبالفعل وزير الثقافة وقتها كتب لأمين عام المجلس بتسجيل الفيلا كأثر ولكن فؤجئنا في أبريل عام 2012 بأن اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية رفضت تسجيلها كأثر.. لماذا ؟ لا نعرف ! ويتابع الدكتور غريب: كما تمت مخاطبة وزيرة التخطيط والتعاون الدولي آنذاك الدكتورة فايزة أبو النجا، بطلب 38 مليونا و200 ألف جنيه كتعويض لأصحاب الفيلا عن نزع ملكيتها بناء علي تقدير الهيئة العامة للمساحة، وليس لديّ فكرة عما إذا كان تم تنفيذ هذا الطلب أم لا!. من ناحية أخري أصحاب الفيلا أنفسهم لديهم أحكام قضائية بهدمها، ولو سجلت كأثر لم يكونوا يستطيعون هدمها، وهذا من ضمن التضارب بين الجهات المعنية، فالأثر لا يجوز هدمه جزئيا أو كليا. وأوضح رئيس جهاز التنسيق الحضاري أن الفيلا تعود إلي المعماري أجوست أجيون الذي شارك في إعادة إعمار مدينة لوهافر الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية والمصنفة من بين التراث العالمي من جانب اليونسكو ,والفيلا من طراز معماري متميز تم بناؤها عام 1926وهي مسجلة طبقا للقانون 144 ولائحته التنفيذية بشأن الحفاظ علي التراث المعماري المتميز. كما أن المجلس الشعبي المحلي للإسكندرية وافق في يولية لسنة 2011 علي نزع ملكية الفيلا، وقبلها في مارس 2010 وافق رئيس الوزراء الدكتور أحمد نظيف علي نزع ملكية الفيلا وتقرير صفة النفع العام عليها، علي أن يتم التنسيق مع وزارة المالية لتدبير الاعتمادات المالية لتعويض أصحابها. وبحسرة يقول الدكتور غريب حتي الآن لم يحدث شيء وتم تخريب الفيلا بشكل رهيب والدولة لو كانت تمتلك الموارد و اشترتها بحالتها الرثة فإنها تحتاج إلي ترميم دقيق ولذلك نحن في موقف صعب جدا في الحالتين وهكذا يضيع أثر تلو الآخر وتفقد المباني التراثية المعمارية تباعا . هذه قصة فيلا تماثلها فصول حكاية فيلا أمبرون التي تسألين عنها ,فبعد الثورة تم تدمير وهدم عدد من المباني الأثرية والتاريخية في الإسكندرية وغيرها من مدن مصر نتيجة ضعف الدولة وانتشار البلطجة وتفشي الجهل وعدم تقديم أحد للمحاكمة طبقا للقانون . ويطالب الدكتور غريب بضرورة تغيير نظرتنا للأمور ..فقبل 2011 كانت هناك دولة قوية بغض النظر عن الفساد الذي كان منتشرا لكن الدولة ظروفها الاقتصادية كانت أحسن وكذلك شرطتها كانت أقوي . بعد 2011 لايجب أن نلوم الدولة لأنها في أضعف حالاتها، وفي وقت الأزمات والمحن يجب أن تظهر معادن الشعوب ولابد أن يتعاون القطاع الخاص والملاك والأهالي لتحقيق هدف مشترك، فلن تستطيع الحكومة أن تحمي هذه المباني ذات القيمة التاريخية والمعمارية ..فنحن في أشد الحاجة إلي وعي الجميع لأننا نعيش في العصور الوسطي وما قبلها ,فقد انتشرت الظواهر التي لا تري غير المصلحة الشخصية ولا تعرف المصلحة العامة، فانتشرت الفوضي والبلطجة وهدم وحرق المباني والتاريخ والتراث ..ويؤكد الدكتور غريب أن تدمير أي أثر يعد خيانة لتاريخ البلاد وممتلكاتها وثرواتها ولا يمكن تعويضه بأي ثمن . وفي النهاية نناشد كل المبادرات والحركات والجمعيات والنشطاء الذين يحاولون الحفاظ علي التراث المعماري في البلاد أن ينشطوا ويقفوا في وجه أصحاب المباني ذات الطرز المعمارية المتميزة والمحظور هدمها لأنها تمثل جزءا من النسيج العمراني للمدن والقري المصرية فهذه المباني تستجير بكم لإنقاذها من براثن أصحابها وملاكها الذين لايعرفون قيمتها الحقيقية لهم ولأولادهم من بعدهم.