غداء وتجشارة »لقد فرحت عندما وجدت العرب بشرا كالأمم المتحضرة« بداية أساسية لعرض صورة مصر خلال القرن الثامن عشر، من خلال يوميات (كارستن نيبور) عالم الجغرافيا الألماني، الذي جاء إلي مصر في الفترة من1761 وحتي 1762، عضوا في أول بعثة ألمانية لمصر، ضمن خمسة من علماء اللغة والعادات والطبيعة، فضلا عن الجغرافيا ورسام وعالم في النباتات وعلم الحيوانات. والملاحظة الأولي، قد تكون مدخلا أساسيا لكشف تصور أو مفهوم أوروبا عن العرب، قبل تلك الرحلات العلمية، والتي بدأت بعد عصر النهضة.. لاكتشاف هذا العالم الجديد، الذي ارتطموا به عند فتح العرب للأندلس، ووجدوا أنه من اللازم معرفته ودراسته وتمهيد الطريق لاستعماره.. بتحديد خطواتهم علي الأرض. وينجلي ذلك في استعراض بعض من أهم الأسئلة، التي فرض علي البحث الإجابة عليها.. مثل عدد السكان ونسبة المواليد والوفيات، ونوع الحكم، وعادات وتقاليد أهل مصر والعرب، وخصوبة أرضهم، وأنواع نباتاتهم وحيواناتهم وطيورهم وحشراتهم، ومناخهم.. وما إلي ذلك من أسئلة حساسة. بدأ سير هذه الرحلة من بدايات عام 1761 ميلادية، بتمويل من ملك الدانمارك آنذاك، وبعد ثلاثة أعوام من الإعداد لها. مثل دراسة اللغة العربية، وقراءة كتب فلاسفة العرب، ودراسة علم الفلك، وتجهيز الأدوات العلمية اللازمة للرحلة. هدف الرحلة في الأصل، هو تدعيم دراسة خاصة بالكتاب المقدس تهدف إلي الرجوع إلي أصول الكلمات والأماكن المذكورة في الكتاب المقدس، ليحسن تفسيره، من خلال زيارة ميدانية للأماكن المذكورة في مصر وفلسطين.. ومناطق البحر الأحمر والقدس وغيرها. وضع هذه الفكرة عالم ألماني يدعي (متيشا إيليس)، وعرضها علي البلاط الملكي الدانماركي، وحازت القبول.. وتم اختيار أعضائها. وضمت البعثة كلا من الأستاذ فون هافن أستاذ اللغات الشرقية، والأستاذ فورسكال أستاذ العلوم الطبيعية.. والطبيب كرامر، والرسام فيلهلم فضلا عن كارستن نيبور.. ولأن كارستن نيبور هو الوحيد الذي تبقي من أعضاء البعثة الذين توفوا جميعا بما فيهم الخادم أثناء الرحلة، فكان هو الذي قام بتقديم تقرير البعثة عند عودته ونشر يومياتها.. ويوميات خاصة به هي التي ستعرض وصفه لمصر من خلال كتابه القيم الذي ترجمه د. مصطفي ماهر بعنوان (رحلة إلي مصر). كارستن نيبور وكارستن نيبور، واحد من أصحاب قصص الكفاح العلمي المماثل في خطواته لمعظم رواد الفكر والعلم في العالم وكذا في العالم العربي، فلم أجد فيها ما يختلف كثيرا عن مشاق حياة كثير من رواد الفكر العربي. فهو ابن لمزارع، ولد في مارس 3371، وأظهر ذكاء دفع بوالده إلي دفعة إلي التعليم، رغم مشاق ذلك آنذاك، لكنه توقف عن دراسته بعد وفاة أبيه وضياع إرثه، وبقي بلا عمل، حتي لاحظ حاجة القرية إلي »مساح« يقيس أراضيها الزراعية، فسافر إلي مدينة (هامبورج) لدراسة الهندسة، وعاني هناك شظف العيش لتحقيق علمه، ولفت انتباه أساتذته لذكائه وخلقه القويم.. وكان أن اختير عضوا في هذه الرحلة. وقد استمرت الرحلة ستة أعوام.. زار خلالها مصر والشام وبلاد الحجاز.. وعاد عام 7671 ليقدم تقريره العلمي وسط ترحيب عظيم من رجال البلاط الملكي والعلماء.. وبعد سبع سنوات قام بنشر المجلد الأول من رحلته، وأعقبه بالمجلد الثاني.. ولم ينشر المجلد الثالث إلا بعد وفاته.. حيث نشر عام 7381.. وقد توفي نيبور عام 5181 عن عمر يناهر الثانية والثمانين.. وبعد عودته اهتم بحياته الاجتماعية، حيث تزوج وأنجب ولدا وبنتا، ثم عين في وظيفة مسح المناطق الوعرة من النرويج، فاستقر في مدينة بعيدة عن العاصمة، حيث تفرغ لوظيفته، متوقفا عن دراساته العلمية، ثم اشتري قطعة أرض لاستصلاحها.. وانتهي بالأمر مريضا مقعدا، علي أثر ضياع نظره من قراراته الكثيرة، وتحديقه أثناء الرحلة في الشمس، لرصد الفلك، دون استخدام عدسات معتمة. لكنه استمر حتي نهاية عمره، يذكر الشرف.. وأهله وتاريخه.. وإعجابه بتاريخ رجاله.. وسيرة أنبيائه.. خاصة سيرة النبي محمد([) والخلفاء الراشدين(رضي الله عنهم)، خاصة عمر بن الخطاب(]) وعلي بن أبي طالب(]). كما احتفظ حتي نهاية عمره، بتمسكه في كتاباته بالحقيقة، ولمس الأشياء والبعد عن التجريد، واستخدام العبارة السهلة كل السهولة في أسلوبه.